أحمد حلمي يكتب: "جنازة ثانية لرجل وحيد".. الموت لعبة مراوغة

 

في مجموعتها القصصية \”جنازة ثانية لرجل وحيد\”، تلعب دعاء إبراهيم مع الموت لعبة مراوغة وخطرة بالنسبة لكثيرين ممن يخافون الموت مثلي. حيث قالت تعليقا على مجموعتها إنها كُتبت على إثر سيطرة فكرة الموت عليها في فترة كتابة المجموعة، فأخذت تبحث لغز الموت في ذاته وتحاول إعادة ترتيب مفاهيم الحياة والموت من جديد، وذلك من خلال أسئلة مثل: هل الموت هو الخلاص؟ وماذا يكون يكون الحال عندما يكون الموت هدفا في ذاته؟ فصنعت حالة جعلت من الموت فعلا اعتياديا من أفعال الحياة اليومية، مما أدى لتفريغ الموت من هيبته وجلاله وسقوط الخط الفاصل بين الموت الحياة، فامتزجت طرق التعامل بينهما واختلط الأبيض بالأسود.
لغة المجموعة سهلة وبسيطة لا تحتوى على تعقيد أو تقعر مع حملها العديد من المصطلحات والأماكن التي أشارت بوضوح إلى سكندرية الكاتبة، إلا أنها لم تعط الزمان والمكان اهتماما واضحا، وذلك لعمومية الفكرة وتجريدها.
تبدأ المجموعة بإهداء للجد صاحب الحياة الحافلة بالحكايات، تلك التي لم يتبق له في آخر أيامه سواها، في هيئة لقطات أو قصص قصيرة في إشارة لامتزاج واشتراك كل من الحياة والفن القصصي في التعريف والتوصيف ذاته.
ومن المدخل تبدأ اللعبة التي تحاول الكاتبة إشراك القارئ فيها مرغما. حيث تنعكس طبائع الأمور بتحويل الجو الممتع المحرض على الحياة إلى خطر مميت، في رغبة منها في التعامل مع وجه العملة الآخر من البداية.
ومع الخطوط الزرقاء تبدأ الرحلة مع تلك العائلة من الموتى الأحياء، حيث تسرد البطلة ملخص حكايتها هي وأسرتها ولعبتهم مع الموت من البداية. ويتوالى السرد في باقي قصص البطلة بتفصيل ما تم إجماله في القصة الأولى حتى قصة النهاية التي تجمع شمل من فرقتهم الحياة مع وعد بحياة جديدة بعد الموت لا تتخلص من كل ملامح الحياة القديمة وإن كانت تحمل لهم بعض الأمل.

الخدعة الأساسية في المجموعة أنها تدور في الأساس حول الحياة لا الموت.. فقط تم استبدال المسميات والملابس بين هذين الكائنين المتناقضين المتكاملين (الموت والحياة)، فتحولت الحياة الرتيبة مفرغة المعنى إلى موت مقنع، والموت المقبض الأسود للبعض تحول إلى حياة جديدة تنكشف فيه الحجب وتحل المشكلات الكبرى وتتيسر فيه كل المعضلات.

بطل المجموعة (وهو زوج البطلة) هو من كشف الخدعة في سرده، فهو من كان يطالب بإجازة من عمله ليموت مع شروق الشمس حتى لا يوقع عليه أي خصم من راتبه هو في غنى عنه ليستقر الأمر في النهاية على إذن من العمل يسمح له بالموت مع شروق الشمس كما يريد والذهاب إلى عمله في تمام العاشرة صباحا حتى لا يتأثر العمل ومصالح المواطنين بموته.
في هذا الوضع وما تلاه من أحداث ترتدي الحياة ثياب الموت السوداء، ويقف الموت في ثوب المخلص حاملا مشعل النور في نهاية النفق المظلم الذي يعيش فيه الأبطال معاناتهم المنبعثة من واقعهم أو ماضيهم.
وتحت مظلة لعبة الحياة والموت وتبادل الأدوار بينهم تنبثق قضايا فرعية تغذي مجرى الحكاية الأساسي، فعلاقة البطلة بأمها كانت هي حجر الأساس في معاناتها، سواء في تعريفها بالموت لأول مرة، أو تلبسها بروح وحالة أمها طوال حياته أو موتها، وكانت حكاية البنت والأم والأخت وما تلاها من إشاعات ومعاناة، سببا في زواجها من البطل. في إشارة إلى أن تاريخ الإنسان العائلي هو الصانع الأول لمستقبله بشكل أساسي ما لم يتدخل عامل خارجي قوي يغير مصير ومستقبل الشخص.
والقضية الفرعية الثانية الواضحة بقوة في قصص البطل المنفردة أو قصصهم المشتركة هي علاقة الأزواج وحياتهم سويا.. كيف يمكن أن يمضي المرء حياته كلها في خدعة؟ أو كيف يمكن أن يتحول التعود والاعتيادية والملل إلى حالة من حالات الموت المعنوي؟
وتنكشف اللعبة بشكل أخير في خاتمة المجموعة، حيث تنتهي بنص رمزي واضح الدلالة يربط ما حدث في حياة الأبطال بكل الواقع الاجتماعي والسياسي، في تحريض صريح على تحدي الموت المقنع بالحياة أو الحياة المرتدية ثياب الموت من أجل الحصول على حياة جديدة حقيقية.
المجموعة إجمالا تجربة جميلة وثرية ولا تثير الكآبة على غير العادة في الكتابات التي تتناول الموت كتيمة أساسية لها، فهي تدعو للتفكير والتأمل من خلال رمزيات ودلالات عميقة وأحيانا بعيدة تحتاج إلى المزيد من التفكير والتأويل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top