أحمد تايلور يكتب: تحية إلى وزير العدل "المحترم"

هذا العنوان لا يحمل أي ذرة سخرية أو استهزاء بوزير العدل المستقيل أو المُقال. هذا ابتداءً، ندخل في الموضوع.

في الوقت الذي كانت تنهال فيه قوات الجيش والشرطة بالرصاص الحي على رؤوس المتظاهرين يوم 6 أكتوبر 2013، كانت مصر تحتفل بذكرى النصر الذي لم يشهده أي من جنرالات الرز والبيزنس والصفقات والعمولات، وقال عبدالفتاح السيسي الإفيه الشهير \”أنتو مش عارفين إنكو نور عنينا ولا إيه\”، فارتبط هذا الإفيه بكل ما هو سيء وحالك السواد في وجدان كثير من الناس.

\”أقول بكلمات اضحة.. إن كرامة المصريين من كرامة مصر، ومصر لا تتهاون أن يسيء لكرامة أبنائها\”.

هذا أيضا إفيه شهير لمبارك أطلقه عقب الأزمة الشهيرة مع الجزائر بعد مباراة أم درمان، وفي الوقت الذي كان يؤكد فيه مبارك على أن كرامة المصريين من كرامة مصر، كانت أقسام الشرطة قد تحولت بشكل فعلي إلى سلخانات تعذيب وقتل ممنهج.

\”إن رعاية مواطنينا بالخارج مسؤولية الدولة نرعى حقوقهم لا نقبل المساس بهم أو التطاول عليهم أو امتهان كرامتهم\”.

إفيه آخر شهير لمبارك، وبالطبع لا نحتاج لإثبات كيف يعامل المصريون في الخارج من امتهان ومهانة.

ازدواجية الخطاب والسياسات مبدأ راسخ في العقل السياسي المصري، وأي محاولة صادقة تستهدف هذا المبدأ الأصيل والحاكم سيتم التنكيل بها فورًا.

……….

هب أن السيدة الوالدة تعمل \”رقاصة\” وجاء أحدهم وعايرك بذلك، قبل أن تتشاجر معه، اسأل نفسك سؤالا، لماذا سوف أتشاجر مع هذا الرجل؟ هل لأنه افترى عليّ والسيدة الوالدة لا تعمل رقاصة، أم لأنه تبجح في إظهار الحقيقة؟

هذا ما حدث مع وزير العدل الذي أغضبنا تصريحه دون أن نتوقف لحظة ونسأل لماذا أغضبنا؟ هل لأن ابن عامل النظافة له الحق في الالتحاق بسلك القضاء وهو يجرده من هذا الحق، أم لأنه تبجح في إظهار الصراحة والحقيقة؟

لكننا لم نفعل، وغضبنا، فهل يعرف أحد منا ابن عامل نظافة يعمل في سلك القضاء؟ وبعد استقالة وزير العدل أو إقالته هل ستتاح الفرصة لأبناء عمال النظافة وحارسي العقارات مثلا في الالتحاق بالسلك الدبلوماسي وسلك القضاء وفقا للمادة التاسعة من أعظم دستور في العالم، التي تنص على أن \”تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز\”، أم أن لحاف خالد يوسف لا يزال يعاني من قرص البرغوت.

……….

بالطبع لا يعرف أحد منا أيا من هذه النماذج لأننا لا نعيش في دولة بقدر ما نعيش في وسية، بل تتخم ذاكرة أغلبنا بقصص هؤلاء المقهورين الذين عانوا ويعانون من ظلم الوسية، أنا شخصيا وعند الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في 2006 لازلت أتذكر حكاوي الطلبة القدامى عن عبدالحميد شتا، الطالب المتفوق الذي ألقى بنفسه من أعلى كوبري أكتوبر منتحرا بعد أن أخبره أحد العاملين بوزارة الخارجية أنه \”غير لائق اجتماعيًا\” للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، ومازال السؤال يؤرقني لأكثر من 9 سنوات، لماذا تحرص الوسية على إظهار وقاحتها بجانب ظلمها؟ كان يكفي أن تخبره بفشله في امتحانات الخارجية وكفى، فلماذا لم تفعل؟!

……….

\”مش للدرجة دي، القاضى لابد أن يكون من طبقة مناسبة لهذا العمل مع احترامنا لعامل النظافة ومن أقل منه، القاضى له شموخه ووضعه ولابد أن يستند إلى وسط محترم ماديًا ومعنويًا\”.

هذا ما قاله وزير العدل السابق ردا على سؤال المذيع حول إمكانية التحاق ابن عامل النظافة بالسلك القضائي.

بالطبع الإساءة إلى عمال النظافة فجوة إدراك حضاري، وهذه النظرة مفهومة عموما في إطار التردي والانحطاط الحضاري العام الذي تعيشه مصر، لكن الشيء غير المفهوم هنا أن تُوجه سهام الغضب إلى الوزير الذي أقر بواقع حاصل بالفعل، دون أي استنكار لهذه القواعد الظالمة المعمول بها بالفعل في هذا السياق!

\”أنا قلت واقع لما تم توجيه سؤال لي، ومجلس القضاء هو المختص بالتعيينات وليس أنا، مع احترامي لكل الناس وكل الأعمال لكن في وظائف مثل الشرطة والجيش والنيابة والسلك الدبلوماسي مش أي حد بيتعين فيها ودا اللي بيحصل فعلا\”.

هذا أحد التصريحات الصحفية للوزير بعد الاستقالة، التي قالوا لنا إنه قدمها لرئيس الوزراء.

بالله عليكم، ألا يستحق هذا التصريح الإشادة والتصفيق؟!

نحن يعجبنا السياسي المنافق الذي يخبرنا بأننا نور عينيه، ثم يطلق علينا نيرانه في الشوارع، أما ذلك الذي يقولها في وجهنا مباشرة، نمتعض منه على طريقة \”بس برده محدش يقول كده\”!

……….

كان لابد من إقالة وزير العدل، لا لا سمح الله استجابة لغضب الناس، على الإطلاق، فالسلطة هنا لن ولم تتحمل شخص يعزف خارج سيمفونية العالم الموازي الافتراضي المنافق الذي تحكم به وفيه، نحن ديمقراطيون ويجب أن نقول للناس ذلك حتى وإن كانت سياساتنا تنحاز ضد الديمقراطية، نحن نعيش في دولة القانون، ويجب أن نخبر الناس بذلك حتى وإن كانت ثمة جهات سيادية تحكم مصر تستمد سلطانها من قوة السلاح ورأس المال، لابد أن نقول إن مؤسسات الدولة تلتزم بمبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين حتى وإن كانت تلك المؤسسات غارقة في أوحال الفساد والتمييز بين البشر لاعتبارات ما أنزل الله بها من سلطان، نحن نحكم مصر بالدستور ولا نفرق بين مصري وآخر.. لابد أن نقول ذلك حتى وإن كنا نحكمها بالحذاء.

نحن نكره إسرائيل كما يكرهها شعبان عبدالرحيم، ومن غير المسموح أن ينادي مسؤول بالتطبيع علنا حتى وإن كانت سياساتنا الخارجية لا تخدم إلا تل أبيب، هذه المسألة خط أحمر عند دولة يوليو، نسبة إلى الجمهورية التي أسسها عسكر 52، ومن يتجاوزه لابد من الإلقاء به في سلة المهملات دون أي اعتبار.

عبدالفتاح السيسي الذي لا يفوت مناسبة إلا ويؤكد فيها حرصه الكامل على حقوق الإنسان والديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان شاهدة عليه، لن يقبل بوزير صريح كل هذه الصراحة.

……….

\”تسعة أعشار مطبلاتية العالم في مصر، والعشر الأخير لم يجد له مكانا فقرر البقاء في مصر\”.

ما هذا الاستقبال الحافل من نخب مثقفة وأكاديميين وإعلاميين ومعلقين على وسائل التواصل الاجتماعي لخبر استقالة وزير العدل، هل من المعقول أن يبادر شخص عاقل باستقبال خبر الاستقالة بفرح وسرور، دون أي تعديل في منظومة التمييز بين المصريين بناء على حسبهم ونسبهم؟!

الرد الوحيد على وزير العدل الذي يستحق الإشادة أن تلتزم المؤسسات بالدستور والقانون، ولا تجوّد في استحداث معايير خاصة للقبول، ولا تورث أبنائها الفشلة الوظائف، ولا تميز بين المواطنين باعتبارات الوسية، أي شخص يصفق ويطبل ويهلل لغير ذلك نحن نطلق عليه وصف شهير مكون من ثلاثة حروف، يطلقه المصريون على الرئيس الحالي، ولا تتسع هذه السطور لذكره.

……….

تحية إلى أصدق مسؤول مصري، وزير العدل \”المحترم\”، الذي لم يتماه مع عالم السلطة الموازي الذي يخبر الناس بأنهم نور عينيه وماكينات قتله لا تتوقف عن حصد أرواحهم، يعدهم بالرخاء ولا يجدوا إلا الشقاء، يوهمهم بأنه لن يموت إلا في سبيل الحفاظ على أمنهم، وهو يروع أمنهم من أجل بقائه وفقط.

سيرحل وزير العدل، وسيأتي رجل مقتنع تماما بأن ابن عامل النظافة ليس من أحد حقوقه الالتحاق بالسلك القضائي أو أي من سلوك الجهات السيادية، الفارق الوحيد فقط أن الوزير الجديد سيظل مقتنع بأقكاره في السر، ولن يخبرنا في العلن بحقيقة الدولة التي يخشى السادة المسؤولون عليها من الانهيار وضياع هيبتها.

سيقول لنا في لقائه القادم إن عمال النظافة هم بناة الوطن، ومن حق أبنائهم الالتحاق بكل الجهات والسلوك السيادية، لكننا نعلم أنهم لن يلتحقوا إلا بإحدى الكتائب العسكرية المهملة في سيناء، كما نعلم أيضا أن جثمانه عن قريب سيواري الثرى بعد هجمة شرسة من الجماعات المسلحة التي لا تجد رادع لها هناك.

للتواصل مع الكاتب :

https://www.facebook.com/ahmd.taylor

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top