أحمد تاج يكتب: ينـــــــاير

السبت 22 يناير 2011
يجلس ذلك المراهق السمين طالب المرحلة الإعدادية بين رجُلين -سِمان كحاله– في مقدمة ميكروباص متوجه إلى \”قلعة قايتباي\”، يخبر أحدهما الآخر بأن \”في ناس هتنزل مظاهرات التلات الجاي!\”، ثم يتشاوران في الأمر بصحبة دخان سجائرهم المتراقص في الهواء.
لم يكترث صديقنا الصغير – سنًا، الكبير حجمًا- بالأمر، كل ما كان يشغل باله في تلك اللحظة أنه في غضون أيام قليلة سيبلغ أجازة نصف العام ليقرأ ما اشتهى من \”روايات مصرية للجيب\” ويذهب للسنيما وحيدًا.
الثلاثاء 25 يناير 2011
لم يبق الكثير على آخر امتحاناته، مما يعني أن إجازته قد بدأت -عمليًا- ذهب إلى السينما وقطع تذكرة لفيلم \”365 يوم سعادة\” ثم جلس يشاهد الفيلم في غبطة.
ما له ومال المظاهرات؟ الفتى لم يكن يتابع حتى مباريات الكرة، والسياسة لم تكن تشغل باله كثيرًا، اللهم إلا بعض الدقائق المعدودة التي كان يشاهد فيها بعض مقاطع لأحداث مثل: تظاهرات حركة \”كفاية\”، إضراب المحلة الكبرى في 6 أبريل 2008، لم يكن يفهم ما الذي يحدث بالضبط لكن تلك المشاهد حفرت في ذاكرته بغير قصد منه.
لكن، سياسة؟! اللعنة عليها، أنا أكره الأخبار. لا أفهم لماذا يرهقون أنفسهم بالمظاهرات والسياسة؟
كان ذلك اليوم في مجمله يومًا هادئًا لصديقنا. لم ير أيًا من تلك المظاهرات التي قالوا عنها.
وتوالت الأيام والأحداث تباعًا، وصديقنا الصغير –أنا، إن لم تكن قد فطنت للأمر بعد!- يتعرض لدفعات متلاحقة من الوعي.
\”عيش، حرية، عدالة اجتماعية\”
\”إزاي أنا رافع راسك، وأنتِ بتحني في راسي إزاي؟ \”
\”العيال دي لازم تتضرب بالطيران فورًا\”
قالها أحد أقاربي في أريحية مرعبة، حينها –وحينها فقط– استفاق إدراكي، كان لابد لي أن أفهم ما أنا جزء منه.
كان لابد لي أن أرى بنفسي.
أتذكر أول مرة رأيت فيها المظاهرات عيانًا، لن أنسى أبدًا الفرحة التي خالجتني عندما شهدت ذاك التجمع البشري، أصوات تلك الجموع كانت تبعث على شعور أخّاذ بالقوة والإستحقاق.
مجموعة من الشباب تجمع القمامة هنا، ومجموعة أخرى تكّون سلسلة بشرية لكي تحيط المتظاهرين حتى تفسح المجال للسيارات، ألوان وأقلام ولافتات.
شعرت أنني في مكاني، وأن هذه الثورة لم تقم لمصر وإنما قامت من أجلي أنا، شعرت بتلك اللذة التي تدفعك دفعًا لفتح آفاق تفكيرك، تلك اللذة التي اسمها \”الحرية\”.
كانت سماء الأحلام مفتوحة، لا نهاية لما يمكننا فعله.
\”حلمت حلمًا في زمن غابر.
حينما كان الأمل كبيرًا، والحياة جديرة بالعيش\” *
قبل تلك الأيام لم أكن سوى مراهق يبحث عن فتاة، لم أهتم سوى لنفسي. لكن \”يناير\” انتشلتني.
\”يناير\” جعلتني أفكر في قضايا أكبر مني، كنت مهتمًا فعلًا بأن أعرف وأناقش وأكّون رأيًا، كل شيء في شخصيتي تغير. حتى ذائقتي الموسيقية ونوعية أفلامي المفضلة تغيرت وصُبغت بصبغة وأفكار الثورة.
لكن، أتت 2013.
وأنهار كل ذلك. كنت غرًا أحمقًا لم أستوعب هول الكارثة إلا متأخرًا.
لقد أُخذ منا كل شيء.
\”لكن النمور تأتي في المساء، بأصواتهم الهادرة كالرعد.
يمزقون آمالك إربًا، ويحيلون حلمك إلى عار\” *

وتمر الأيام، صديقنا الصغير أصبح كبيرًا الآن، خسر الكثير من وزنه وكذلك من رغبته في الحياة.
\”أنا مش مستريح إننا عايشين وكأنها محصلتش\”.
قالها أحد أصدقائي في مناقشة بيننا، وقد كان محقًا.
لا يمكننا الهروب من الشيء الوحيد الذي جعلنا نعرف بالضبط ما الذي كنا نريد أن نفعله في هذه الحياة.
لكل شئ مرة أولى، و\”يناير\” كانت مرتنا الأولى في كل شئ.
وإن كان للحياة مفهوم لدي، فهي تلك الأشياء التي نفعلها للمرة الأولى في حياتنا. بكل ما يحيط بها من حماس
ورهبة من التغيير وحب إستطلاع وإحساس بالمغامرة.
بشكل ما، كل ذلك اندثر الآن.
لكن في خضم كل تلك المشكلات الوجودية والأسئلة معدومة الإجابات التي تعتصرنا، ستظل الثورة هي الحقيقة الوحيدة التي نركن إليها ونستمد منها البقايا الباقية من طاقتنا ورجاحة عقلنا.
أما بالنسبة لهم، فسيظل \”يناير\” هو شهر الاستنفارات الأمنية والاستعدادات القصوى، لن يفارقهم إحساس الإرتياع والصدمة التي سببتها لهم الثورة.
لا، لن أتحمس أكثر من اللازم، لن أدندن مع الشيخ إمام وأقول: \”مرعوبين\”.
لن أفعل ذلك، لكن ما حدث زلزلهم بالفعل وأفقدهم صوابهم لسنين قادمة.
على الرغم من هالة السواد المحيطة بنا، وعلى الرغم من أنني لا أعلم ما إذا كانت الأوضاع ستتغير للأسوأ أم للأحسن.
لكن المؤكد أن الأوضاع ستتغير، ذلك الركود حتمًا إلى زوال.
هنالك شيء ما يلوح في الأفق.


\”مسير الضي لوحده. هايلمع،
ومسير الضحك لوحده. هايطلع.
ما بيجرحش ولا يأذيش\”**

أغنية \”حلمت بحلم I Dreamed a Dream\” من فيلم \”البؤساء \”Les Misérables، الكلمات لــ\”هربرت كريتسمر\”.
** أغنية \”العيب في الضي\” من فيلم \”هيستريا\”، الكلمات لــ\”محمد ناصر علي\”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top