أحمد تاج يكتب: رابعة والصدمة

مضى عامان على  فض اعتصام رابعة العدوية، والذي راح ضحيته قرابة الألف إنسان من المعتصمين وقوات الأمن على حد سواء، مع اختلاف النسب الشاسع طبعا.

كان فضا عنيفا وقاتلا، ليس للاعتصام ومن فيه فحسب.. وإنما لكل ما أعتقدته يوما!
كنت لا أزال وقتها محملا بحسن النوايا والترقب الطفولي لفترة ما بعد الإخوان، وانهار كل ذلك بعد الفض.. لم أستوعب الأمر سريعا، وبقيت تحت تأثير الصدمة – وربما العناد – لفترة ليست بالقليلة، حاولت بشتى الطرق أن أسوق الحجج والمبررات  أصنع منها درعا، عله يقيني من هجمة الحدث الشرسة على معتقداتي وأفكاري، لكن في نهاية المطاف انهار هذا الدرع وفرضت الحقيقة نفسها بكل بشاعة.
دولة لم تجد حلا سوى الدماء والبطش، فضربت بمطرقتها الجميع – مذنبا وبريئا – دون تمييز ودون أدنى اعتبار لمعنى الدولة وسيادة القانون وتجنب الانغماس في دائرة الدم، وقيادات لجماعة ملعونة ساقت مريديها للموت وشاركت في قتلهم بالتضليل والخداع، وجماهير رقصت على دماء الخصم بحجة \”أننا قتلناهم قبل أن يقتلوننا\”.

وبين من يبكون موتاهم ومن يحتفلون وأيديهم ملطخة بالدماء، كان هنالك قلة ممن قتلهم اليأس بعد أن بُح صوتهم بأن كفى دماءا، وقد بدأ الاكتئاب يتملكهم ويذبحهم بسكينه البارد، وبالطبع كنت أنا – دونما إرادة مني – ضمن هذه الفئة الميمونة.
ثم راحت السكرة وجاءت سكرات، وانهالت الصدمات علينا تزلزلنا واحدة تلو الأخرى.. جنود يموتون غدرا، عمال مساكين تذبحهم يد الإرهاب، اعتقالات واختفاءات قسرية لأقرب أصدقائنا.. يُنتزعون من حولنا بغير سابق إنذار، وقد نفقدهم للأبد بدون حتى فرصة للوداع أو مشاطرة كوب شاي مع بعض الذكريات.

شيماء قُتلت، عذبوا كريم حتى الموت، إسلام اختطُف للأبد.. وإسراء حالتها تسوء.
ونُصدم، ونصرخ، ونبكي… ثم لا شئ.
حتى أصبحنا نتلقى الصدمات في صمت وبلادة.. واعتياد!
ليس لأننا أصبحنا نستهين بالصدمات، لكن لأن خزان جراحنا قد امتلأ، لا مكان لألم آخر، فقد تهتكت روحنا بالفعل.

……….

في كتابه \”الإنسان يبحث عن المعنى\”، يتحدث الفيلسوف وعالم النفس \”فيكتور فرانكل\” عن تجربته كسجين في أحد معسكرات النازية في الأربعينيات، ويصف  فيه \”فرانكل\” من وجهة نظره سيكولوجية السجناء من حوله وكيفية تأثير السجن عليهم وعلى تصرفاتهم.

ومن ضمن ما خرج به \”فرانكل\” أن السجين يمر بطورين من الأطوار النفسية أثناء وجوده في السجن.

أولهما: طور الصدمة، ويتصرف فيه السجين بمزيج من التخبط والتصرف وفق الفطرة والطبيعة الإنسانية.. كأن يغضب ويدير وجهه في جزع عند التنكيل بأحد زملائه.

ثم مع الوقت واعتياد المواقف، يتحول الإنسان للطور الثاني: البلادة وموت المشاعر، فيصبح مشهد التنكيل بزميله معتادا، فلا يدير وجهه عنه، ويتركز اهتمامه على أن يحافظ على حياته وأن يحاول قدر المستطاع ألا يصبح مكان زميله المسكين.

وعلى اعتبار أننا بالفعل نعيش في سجن، فأعتقد أننا أصبحنا قابعين في الطور الثاني وتتملكنا البلادة تجاه كل ما يحدث من حولنا، نحاول الحفاظ على متعنا الصغيرة ونتحرى الحذر كي لا نُبعد قسرا عن هذه المتع.
وأخشي ما أخشاه أن نتحول من مجرد القبوع في حالة البلادة تلك إلى حالة أن نحب البلادة ونبرر لها وندافع عنها حتى آخر رمق، باعتبارها مساحة أماننا الباقية، فلنسميها حالة \”استحسان القبح والرداءة\”، كما أسماها \”نعوم تشومسكي\” في مقاله \”الإستراتيجيات العشرة للتحكم في الشعوب\”.
أخاف أن نتحول من الثورة على الظلم، إلى المساومة على عدم زيادة الظلم الحالي وبقائه بنفس الكم.

اعتقد أن الحل الوحيد لكي لا يحدث ذلك، هو أن نستعيد قدرتنا على التعجب والاندهاش مما يجري حولنا، يجب علينا أن نحاول فض  غبار اللامبالاة عن قلوبنا.. حقيقة لا أعلم كيف، فأنا مثلكم تائه، لكن أعتقد أن ذلك هو الحل الوحيد.
علينا أن نندهش ونستنكر ونغضب وألا نعتاد ما يحدث من حولنا، ببساطة لأن التاريخ لا يتوقف عند حقبة ما، والوضع الحالي مصيره إلى زوال مهما طال الوقت، لكن أخاف أن نخرج من الوضع الحالي بروح خربة غير قادرة على التغيير.

\”إذا فرضت على الإنسان ظروف غير إنسانية ولم يتمرد سيفقد إنسانيته شيئاً فشيئا\”

 تشي جيفارا
فلنتمرد، لأن من تدمى قلوبنا عليهم يستحقون أن نتمرد من أجلهم.
فلنتمرد ولو حتى في داخلنا كي لا نفقد عزيمتنا وروحنا.. كي لا نصبح جيلا مسحوقا آخر مثل الجيل الذي سبقنا ويحاول أن يفرض علينا إرادته وأفكاره منتهية الصلاحية الآن.
فلنتمرد.. لنعيش!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top