منذ عام أو أكثر قليلا من العام وفي أحد الأيام الإستثنائية من أيام الثانوية العامة التي يغلب عليها الكآبة و الحزن وملازم الفيزياء، تسنت لي فرصة أن أشارك في حدث يضم الكثير من الفنانين والمصممين في مصر، وكان الهدف من هذا الحدث بكل بساطة أن يعرض هؤلاء الفنانون أعمالهم لكي يتم تقييمها وفي نفس الوقت يستلهمون من آراء لجنة التحكيم.
و كان هو ضمن لجنة التحكيم وأهم من تحدث في هذا اليوم.
د. هاني المصري.. لقد كنت من المحظوظين الذين رآوه شخصيا وتحدثوا معه، أذكر كيف كنت متوترا وأنا أعرض تصميماتي أمام الجمهور، والقلق يسيطر علي مع كل جرة قلم للجنة التحكيم، لكن لم يسترع انتباهي سوى نظرته هو، والتي امتلأت بالكثير من القوة والذكاء والتواضع في آن، وكيف أنه صاغ رأيه في أعمالي المتواضعة بشكل شجعني، لكنه أشعرني بحاجتي لتعلم المزيد، لم يشعرني بالضآلة والفشل – ككثير من أبناء جيله – لكنه في الوقت ذاته لم يدع نطاقا للنفاق أو التشجيع الوهمي.
حدثنا عن رحلته وكيف أنه منذ صغره قرر أن يعمل للفن وليس للمال، عاند الكثيرين من حوله كي يفعل ما يحلم به.. حكى لنا عن سفره لأمريكا وكيف أنه كان يحمل حقيبة أعماله الفنية الضخمة في يد وابنه الرضيع في اليد الأخرى، ويجري بخطوات واسعة في بلاد متوحشة لا ترحم ولا تعرف الفرص الثانية.
للوهلة الأولى سيقنعك المنطق أن شخصا كهذا في ظروف كهذه، هو هالك لا محالة وأن مصيره هو وعائلته الفشل الذريع، لكنه قامر وجازف بذلك الـ \”منطق\” في مقابل الجائزة الكبرى: الشغف.
وزادنا من الحديث عن حكاياته أثناء العمل على فيلم \”أمير مصر Prince of Egypt \” وكيف أنه خاض حربا شعواء أمام غيلان السنيما والرسوم المتحركة هناك، من أجل أن لا يظهر الفيلم بشكل ينتقص من الحضارة المصرية أو يحرف فيها.
شاركنا حلمه في بناء مدرسة لتعليم وانتاج الرسوم المتحركة في مصر وكيف أن هذا الحلم العبقري تحطم على أعتاب الجشع والرغبة في الكسب السريع بدلا من الاستثمار في العلم والثقافة، أصحاب المال في مصر لا يهمهم أن يتعلم أحد أو أن تظهر ثقافتنا للعالم، قدر اهتمامهم بزيادة ملايينهم.
كلمنا كثيرا عن \”التفكير بالمصري\” وعن رؤيته لمصر ولنا كشباب وعن حبه لمصر ومن فيها وأحلامه لها، وكذلك عن رؤيته للعالم والحريات والسلام.
حدثنا وعلمنا.. ثم تركنا في صمت، وتركني!
تركني مع الكثير من الـ \”لماذا؟\” التي لا أجد – وغالبا لن أجد- لها إجابة:
لماذا من يتأثر بهم الناس هم الحمقى والمعاتيه، ومن يستحق أن يؤثر في الناس فعلا لا يسمعه أحد ويموت في صمت؟ لماذا لا يقود العالم سوى أهل العنف لا أهل السلام؟
لماذا أصحاب أنصاف العقول وأنصاف الأفكار أعمارهم مضاعفة تحسبهم خالدين لا يعرفون للموت طريقا؟ ولماذا أصحاب الأفكار الكاملة والعقول المستنيرة أعمارهم أنصاف أعمار؟
لماذا يبقى الذكي منبوذا في آخر الفصل؟ ولماذا يصبح البلطجي الغبي هو من يقف على الفصل ويصدر الأوامر؟ لماذا؟
لا يجمعني بـ د.\”هاني المصري\” سوى صورة وبضع دقائق من الحديث، لكنه علمني الكثير وأثار في عقلي أسئلة أكثر ورغبة في التعلم لا تنتهي.
لا أريد أن أنهي هذا المقال بكلمات وداع، لأنني على يقين أن هناك لقاء آخر وأن من له بصمة وفكر كهذا لا يموت، لكنني أريد أن أنهي المقال بنصيحته لي، والتي طالما تذكرتها وسأذكرها ما حييت:
\”لما تحس إن في حاجة نقصاك.. اتعلم لكن اوعى تستسهل، إياك تعمل مفتح في وسط عميان\”.
د. هاني.. سلام على روحك.