\”على رسلك يا صديقي، إنها فانتازيا، مجرد قصة غير واقعية لرواية نشرت في العشرينيات، في زمننا هذا هي مجرد ترهات، أنت فقط تحب ليوناردو دي كابرو\”
كان هذا رد صديقي الذي يكبرني ببضع سنوات، عندما عبرت له عن إعجابي الشديد بشخصية (جاتسبي العظيم) وتصديقي له، بل وإحترامي وإيماني بموقفه في عموميته.
رد صديقي القاطع أثار إنتباهي وأجبرني على التأمل والتفكير، ليس في العمل السينمائي الرائع الذي حاز (جائزتي أوسكار)، ولا بخصوص الرواية التي تجاوزت مبيعاتها خمسة وعشرين مليون نسخة، لا بل أكثر ما أثار إنتباهي هي الحالة، خصوصًا أني على عكس صديقي، لدي إيمان بأن الحالة -لا القصة- واقع حدثت وتحدث حتى الآن.
(جاتسبي) هو العاشق عن بعد، المحب بلا منفعة، يزداد حبه لفتاته يومًا بعد الآخر دون أن تبادله المشاعر، فهو يؤمن أن الدليل على حقيقة حبه أن يزيد في الغياب، هو ليس (حبا من طرف واحد) بشكل تقليدي، فهي كانت تكن له المشاعر، وحدث أمر ما، سواء بإرادته أو رغما عنهما، فرق بينهما مؤقتا، ليعود فيجدها في علاقة أخرى، فيأخذ قرارًا بالانتظار، بل ويهيء كل حياته للصورة الأجمل التي سترضي الحبيبة، وبشكل أوضح هو يربط حياته بها.
وهو بالضرورة شخص جذاب ويؤمن بذلك، ويعرف كما يعرف من حوله؛ أنه يستطيع أن يدخل في علاقات أخرى بسهولة، لكنه متمسك تمامًا بأن موقفه إختيار وليس إحتياجا، بل إنه كلما تعرض لنظرات إعجاب أو مواقف، توضح القبول من أخريات، زادت ثقته بنفسه وإصراره على موقفه.
حبيبته خرجت من المقارنات، فلا ينظر بجوار صورتها لحجم أنف أو محيط خصر، لا ينشغل بلون بشرة أو عيون، لا يفهم قواما أو إثارة أخرى، هي الصورة الأصلية لدية، في توهجها وإنطفائها.
هو أيضًا لا يقتنع إطلاقًا بأي أحاديث عقلانية واقعية؛ إذا ما حملت في مضمونها فكرة النسيان أو التجاهل، حتى لو كان شخصًا واقعيًا في أمور أخرى، وهو بالكاد لا يعترف أبدًا أن هذا الموضوع يمكن أن يعطله عن شيء آخر في حياته، لأنه يؤمن بأنه يمثل لديه نسبة معتبرة من دوافع النجاح، حتى وإن تظاهر أن كل دوافع النجاح شخصية.
الغريب أن أخطاء (جاتسبي) مكررة عبر جميع العصور، فبرغم أنه يفكر في المستقبل فقط، ويرسم الحلم وينشغل بتفاصيله، كيف سيعيش هو وحبيبته في جنتهما الخاصة على هذه الأرض، وكيف له أن يخلق من بقية عمره وهما معًا أوقاتًا سعيدة ومثيرة، إلا أن إستدعاء الذكريات سواء بإرادته أو رغمًا عنه أثناء العودة، يصنع مشكله ويربك المشهد، فهي ليست ذكريات سعيده تمثل الحنين فقط، في الغالب هناك أيضًا ذكريات تعيسة ومؤلمة، ومرعبة أحيانًا، وإلا لما كان الفراق.
كما أنه عندما يشعر بأي شيء يلّمح لتعاسة حبيبته السابقة، يسارع في تهور بتقديم نفسه، إن كان ينوي الانتظار فلماذا يتعجل إذن؟
الاقتراب المتعجل ينتهي سريعًا إلى غياب إضطراري، لكنك لا تستطيع أن تلومه على تلك التصرفات، لأن الأزمة الحقيقية التي يواجهها، أنه يمر بحالة صدق غير مسبوقة، ومشاعر متوهجة، وتأثير المواقف الإيجابية والسلبية عليه يكون تأثيرًا ضخمًا مبالغًا وفيه، وإن لم يظهر أمام الجميع ذلك.
كما أنه يعيش صراعًا داخليًا دائمًا، يخشى أن يكون أنانيًا في أي موقف يتخذه، ويخشى في نفس الوقت أن يكون مفرطًا، وشبح النهاية الحزينة يطارده ليلًا، فيقاومه بأحلام ربما هي فقط من صنيعة عقله الباطن.
في عيون المقربين له هو دائم التبرير لحبيبته، مبالغ في إلتماس الأعذار لها، أحيانا من الطبيعي أن يرى الآخرون ذلك، بل وربما يستهجنون أيضًا، فهو يبرر لمن ليس معه، ويلتمس الأعذار للغائب بإختياره، لكنه في الحقيقية هو فقط يتعامل مع الموقف حسب رؤيته، لأنها تمتلك رصيدًا كبيرًا لديه، يسمح له بأن يتجاوز مواقف، يراها الجميع عدم مراعاة شديدة لمشاعره.
بالكاد هو ليس شخصًا (ماشوسيًا)، يغضب بشدة من تصرفات بعينها، ينفعل ويثور عندما يسمع شيئًا ما صدر عنها، ويتخد مواقف قوية يعبر فيها عن هذا الغضب، إلا أنه في إطار الحالة الشعورية العامة المسيطرة عليه؛ لا يؤمن أن كل هذه التصرفات تستلزم الإقصاء، ربما برغم ضخامتها في عيون الآخرين، يكفيه هو إعتذار مؤجل أو إنكار، يرفض إطلاقًا أن تتسرب القسوة إلى قلبه، حتى لو شعر بقسوتها تجاهه في مواقف عدة، يكره أن يرى نفسه قاسيًا في مشهد من المستقبل.
أما أكثر الأمور إشتباكًا وإرباكًا في عقل (جاتسبي)، هو موضوع الإقتراب والغياب، فهو يتألم في الحالتين، في الإقتراب لا يستطيع أن يتوقف عن التعبير عن مشاعره، ويتأثر بحساسية مفرطة بكل ردة فعل منها، وفي الغياب يكفية الشوق واللوعة وإحساس الفراغ مهما كان مشغولًا، ولا يعوضه إطلاقًا زيارتها اليومية له في أحلامه، أو إنشغال باله طوال الوقت بها، أو مرور طيفها عليه بين الحين والآخر، في كل الأماكن التي تحمل له معها ذكريات أو لا.
في النهاية:
إن كنت تعرف أحدًا في حالة (جاتسبي)، لا يمكنك أن تتوقع تصرفاته أبدًا، لكن إحذر أن تظهر له إحساسًا بالشفقة، فهي أكبر إهانة يمكن أن توجهها له، فهو مؤمن بقوته، ومخلص ومؤمن بقصته.
هل يمكن أن تنتهي حالة (جاتسبي) أم أنها أبدية؟
لا توجد حالة أبدية للمشاعر، فقبل العودة ربما إهانة بالغة مقصودة وجهًا لوجه من فتاته كفيلة بإسدال الستار، وبالضرورة إن عادت إليه فتاته؛ سينتقل إلى حالة جديدة، سيبدأ معها علاقة طبيعية، لكنه ربما لن يكون عاشقًا طبيعيًا.. سيكون ساحرًا، هو لا يفكر فقط في أنه يريد أن يكونا معًا، لا بل يرغب أن يكرس كل ما يستطيع تروضيه في هذا الكون، حتى يدخلها جنة يحلم بها البشر بعد الممات.