مشهد 1:
في منزل (عم حنا) ذلك الرجل الذي يعمل مع جدي، ويسكن في الحقل، أجلس أنا ولم أتعد الخامسة من عمري، أنتظر زوجته تقطع لي ثمرة بطيخ، مع طبق من (الجبن القريش)، وأنا ذلك الطفل شديد الحساسية في كل ما يتعلق بالطعام، لم أكن أقبل مطلقًا أي طعام يقدم لي خارج المنزل، مهما كانت درجة قرابة من يقدمة، إلا في مكان واحد منزل (عم حنا).
مشهد 2:
كنت لم أتجاوز بعد عامي السابع، أتنزه مع والدي على النيل، ممسكًا بيده، رافعًا رأسي، أنظر إليه وإلى السماء، ثم سألته:
بابا: يعني إيه مسيحي؟
بابتسامة عريضة رد:
يعني إنسان زيه زيك.
رافعًا حاجبي:
أومال إيه الفرق بيني وبينه؟ ليه أنا إسمي مسلم وهو إسمه مسيحي؟
أبي ضاحكًا:
أنت إسمك (أحمد) على فكرة.
ثم جلسنا، وقال لي:
كلنا بشر زي بعض، وكل الحكاية إن الفرق بينك وبين شخص مسيحي إنه مؤمن بكل اللي أنت مؤمن بيه، ما عدا جزء منه وبس.
ثم أخبرني والدي عن صديقه المسيحي الذي أُستشهد أمامه في حرب أكتوبر.
مشهد 3:
من صالة السفر الدولي بمطار القاهرة، في وقت فُرض فيه حظر التجوال، جلست علي مقاعد الانتظار في مواجهة سيدة خمسينية، طلبت مني أن أوقظها بعد ثلاث ساعات، خشية أن تفقد طائرتها إلى نيويورك، لم تنم أكثر من نصف ساعة، استيقظت وتبادلنا أطراف الحديث، وأخبرتني أن تلك هي زيارتها الأولى منذ عشرين عامًا لمصر، وأنها تفكر في إقناع زوجها بالعودة. كنت مندهشًا، ولم أكن أرغب في التطفل فسألتها:
إذن، ما هو أسوأ شيء لفت إنتباهك أثناء زيارتك؟
تنهدت ثم قالت:
أكثر ما أزعجني أن كل أقربائي بلا استثناء قد أطلقوا على أبنائهم أسماء قبطية، كأسماء الرسل والقديسين!
كادت جبهتي تتلاشى من الدهشة، فابتسمت هي ثم قالت:
بالطبع أنا أحب هذه الأسماء، لكن حتى الأسماء أصبحت تفرق! أصبحت اختلافًا وتعبيرًا عن الهوية الدينية، في الماضي كان على سبيل المثال (صدقي)، (عادل) أو (أشرف) والآن أصبح (مصعب) في مواجهة (أبانوب).
سألتها:
وماذا عن الإرهاب؟
ضحكت بشده:
مازلت تبحث عن الإجابه؟
مشهد 4:
في مساء أحد أيام الخريف المطيرة، في غرفة تطل على نهر (نيفا)، في مدينة الليالي البيضاء (سان بطرسبرج) الروسية، أجلس مع مجموعة من الأصدقاء الروس، بعد دعوتهم لي للاحتفال بيوم المهندس المعماري، ثلاث فتيات، بوذية وكاثوليكية ولادينية من خلفية إسلامية، وشابان أحدهما ملحد يؤمن بالإنفجار العظيم، والآخر يؤمن أن الإنفجار قد تولد عنه الرب والبشر.
وكان كل النقاش حول الاختلافات العقائدية بين البشر، وكيف أنها مثيرة أحيانا للدهشة وأحيانا أخرى للضحك، الغريب أن النقاش كان ضاحكًا وفي منتهى الود.
مشهد 5:
بعد يوم عمل شاق، تمد يدها لتفتح باب المنزل، تندهش عندما تجد ظرفًا ملصقًا على مقبض الباب، تضعه مع حقيبتها على الطاولة في الردهة، تدخل إلى المطبخ لتحضر بعض الطعام، تعود وتسحب كرسيا، وقبل أن تبدأ بتناول (وجبة الغداء)، تفتح الظرف وتبدأ في القراءة:
عزيزتي..
أعلم أننا في موقف غاية في التعقيد بما يكفي، وأعلم أن النقاش فيه بلا جدوى، وأدرك تمامًا حجم المسؤلية الملقاة على عاتق الجميع، وحجم الألم والمعاناة، وأشفق عليك من الضغوط، وأعلم حاجة كل منا إلى السلام، لذلك كان البعد إضطرارًا وليس قرارًا، فقط كل ما أرغب في أن تعلميه عزيزتي، أنني سامحت نفسي، وتقبلت نفسي، وفي نفس اللحظة لم أعد أستطيع أساسًا أن أقول إنني سامحتك، فأنا لم أعد أرى أي إساءة من الأساس، لقد زال ذلك الطعم المر الذي كان مصاحبًا للألم، لقد أصبحت تلك المواقف مجرد ذكريات قليلة جدا، لا تذكر ولا تحمل أي أهمية، كل ما أتذكره الآن هي ذكرياتنا السعيدة الكثيرة الرائعة، التي لن تتغير ولن تنسى، في النهاية لن أصادر على المستقبل، فربما يحمل ما أعتقده الآن مستحيلا، ولكني سأعيش في الواقع وأقبل الحقيقة، وسأتذكرك دائمًا بالخير، مع كل محبتي وإحترامي.
المخلص للأبد.
الخلاصة:
التسامح فطرة، يولد بها الإنسان، براءة الطفل مرتبطة بأنه يملك رصيدا كاملًا من التسامح، يخوض المجتمع ضد تسامحنا وبراءتنا حربا مقدسة، منذ اللحظة الأولى التي نعي فيها أننا أحد مكوناته.
المدارس ودور العبادة، المؤسسات الحكومية وأوراقها الرسمية، الخطاب الإعلامي والديني، للأسف الشديد أصبحت معسكرات العدو، فقد رفعوا الشعارات، ودونوها على حجر مقدس، إدّعوا أنه نزل من السماء، صرخوا في كل الأرجاء:
(لا للحب).. (لا للفن والموسيقى).. (لا للإبداع)
نشروا العنصرية والكراهية والتطرف، لم يطلبوا منك أن ترفض الآخر، بل صوروا لك أن (حب الله) في كراهية الآخر.
سلموا النصل لعائلتك، وإدّعوا أنه (أمر إلهي)، وأمسكت والدتك بيديك وذبح والدك تسامحك بلا شفقة، ثم أكملوا شيطنتك في معسكراتهم، ثم قاموا بتزييف الحقيقة، وضعوا لك صورة يمسك بعض المختلفين بأيدي بعضهم البعض، وقالوا: إنه التسامح!
لم ينتصروا بعد، هناك الكثير من داخلهم، اختار خيانة الكراهية وانتصر للحب، وهناك من قاوم ورفض استلام النصل، وهناك من استلمه ولم يستطيع أن يذبح أبناءه، وهناك من ذبح وداوى جراحه، لأنه عرف (الله) حقًا، وأصلح الفن والموسيقى روحه، وأصلح الحب نفسه.
أصبح الأمر يستلزم (ثورة).
(ثائروا التسامح) ربما هم قلة، ولكنهم عكس ما تتوقع، هم الأقوى، سلاحهم مشكاة تنير ظلام العنصرية والكراهية، انضم لهم يا من تشعر بالرغبة في التسامح، ابحث عنهم، ستجدهم في كل مكان، ولكن عليك أن تتأكد تمامًا، أن التسامح في النهاية هو (قرارك) أنت.
