عندما كنت استقل إحدى أتوبيسات النقل العام, مسترخيا تماما، فلم يعد هناك ما يستحق التحفز والترقب والتزاحم، أو الإهتمام, فها أنا قد باركني الرب ومنحني إحدى عطاياه, لقد استطعت أن اجلس على أحد مقاعد الأتوبيس الفردية, استمتع ببعض نسمات الهواء التي تأتيني من النافذة كلما تحرك الطريق.
ما هذا الحظ الوافر؟! ها أنا قد اطمئننت تماما من أنني سأظل جالسا طوال مشواري القصير مسافة، الطويل وقتاً, من رمسيس وحتى روكسي, دون أن يفاجأني أحد المتعبين من يوم عمل شاق أو القادمين من سفر بعيد باستخدام كتفي كوسادة, كما أنني لن أدير وجهي طوال الطريق إلى داخل الأتوبيس, سأظل أحافظ علي عيناي تنظران إلى النافذة, وأنا متأكد تماما من شهامة الراكبين إذا ما استقلت الأتوبيس سيدة مسنة أو امرأه تحمل طفلا.
فجأه وقبل أن نغادر ميدان رمسيس, صعد إلى الأتوبيس رجل أرغمتني رائحته النتنة على أن أغير خطتي وأنظر إلى الداخل, رجل خمسيني مشرد, ملامح وجه جاد, ونظرة ثاقبة, ترك المقاعد الكثيرة غير الممتلئة على غير العادة وتوقف أمامي, ثم أمسك بمسند مقعدي وأخذ يحدق بي!
في البداية كنت انظر له بإشمئزاز, وفي نفس الوقت اندب حظي, لقد حسدت نفسي بلا شك, لقد أصبح مشوارا نتن الرائحة, لكن استوقفتني ملابسه الرثة المهندمة في نفس الوقت! وتلك الساعة التي اعتقد أنها باهظة الثمن التي يزين بها يسراه, وأظافره المقلمة, وبينما انظر إليه باستغراب, انتفضت عندما وضع يده على كتفي وابتسم ثم قال:
– تحت الأرض…..
ثم تركني متجها نحو باب الأتوبيس, مغادرا بعد أقل من ثلاث محطات, كنت انظر إليه بدهشة كبيرة, وأخذت أتابعه من النافذة, فوجدته ينظر إليّ بحزن وتأثر كبيرين ويشير بأصبعه، وافزعتني صرخته \”تحت الأرض\”.
في تلك اللحظة بالذات، رأيت مجموعة من الأطفال تلعب في حديقة وأنا العب مع طفل ربما هو ابني، أو هكذا اشعر، وأنا أيضا اطالع نفسي من خلف سور حديدي واصرخ عدة مرات \”لا.. لا.. لا..\” حتى احترق الجميع وتفحم……
أفقت مفزوعا من أول حلم يقظة آراه في حياتي, كابوس مرعب, وقفت وغادرت الأتوبيس غير مهتم بطول المسافة التي سأقطعها سيرا على الأقدام, لم يكن ما رأيته مجرد محاكاة لأحد أهم الأفلام التي أحببتها منذ طفولتي: \” Terminator 2: Judgment Day \”
الفيلم التي حيرتنا معامل الترجمة في الوطن العربي حول اسمه باللغة العربية، فتارة كان \”المدمر\” وأخرى كان \”المبيد\”، لكنه كان باستمرار \”يوم الحساب\”.
لم أكن في هذه المرة بالذات أعيش في الأفلام التي أحبها كأحد شخصياتها, فمشهد \”الست سارة\” أم جون -الذي رأيت نفسي مكانها- لم يكن خيالا، بل كان خوفا حقيقا, بالفعل اشعر بقلق شديد على مجتمعنا, فنحن نتخلص ونفقد يوما بعد الآخر المقومات الحقيقة والتاريخية التي ساعدتنا على البقاء آلاف السنين.
وفق معلوماتي، وما قرأته، لم يكن مجتمعنا هذا يوما ما مجتمع رفاهية ورخاء, فباستبعاد فترات زمنية قليلة \”بل قليلة جدا\” طوال تاريخنا, كانت فيها بعض المحاولات نحو تحقيق قدر معقول من المساواة أو العدالة أو تكافؤ الفرص, طوال تاريخنا كنا نقبع تحت احتلال أو حكم أجنبي أو سخرة وظلم ونهب لثرواتنا, وكنا نقاوم ونحصل على نتائج ليست بالمرضية تماما, ثم نقاوم، وهكذا باستمرار.
وبالرغم من كل هذا البؤس, تميز هذا المجتمع عن غيره بمجموعة من القيم الأخلاقية, كما أنه كان دائما مجتمعا باسما, أما الآن فتخفت أصوات الضحكات المعتاده خلف قسوة ظروف الحياة, وتتبخر القيم الأخلاقية واحده تلو الأخرى.
في الفيلم كانت التكنولوجيا وبالا على العالم, أما في واقعنا، فالمبيد هو الجهل، فالتطرف والعنصرية واللامبالا والتطفل والتنطع والحقد والكراهية والتشدق وثقافة القطيع والانطباع, تلك الصفات التي أصبحت على وشك أن تكون الصفات المميزة لهذا المجتمع المتآكل, خلقها ودعمها وأوصلها إلينا قدر كبير من الجهل والتجهيل.
كل ما كان يشغلني وأنا على وشك أن افتح باب شقتي:
هل حادثني هذا الرجل المشرد فعلا؟! هل سأكون مضطرا قريبا إلى أن استشير طبيبا نفسيا؟ هل سيلتفت أحد لمناقشة الخطر الحقيقي الذي يهدد بقاء مجتمعنا فعلا, أم سيدفن الجميع رأسه في الرمال، وفي تلك الحالة لن يكون أمامي مفرا من أن انقل محل إقامتي تحت أحد الكباري, بعد أن يصاب أحبائي بخيبة الأمل, من كثرة ما أحضروني من هناك وأرغموني على الاستحمام, أم ساستطيع أن أكون شخصا باردا يمكنه التجاهل؟!