أحمد السيد الكيال يكتب: العلاقات العاطفية

في أوائل التسعينيات، أطلقت الفنانة التونسية (لطيفة)، التي كانت من أكثر المطربات شهرة وشعبية آن ذاك، أغنية تحت عنوان (بحب في غرامك)، في مطلع تلك الأغنية جملة شهيرة لعل الجميع يتذكرها (يا أبيض يا أسود لكن مش رمادي!).

للأسف الشديد في مجتمعنا فكرة مشوهة تماما عن مفهوم العلاقات العاطفية، البعض ينظر للعلاقات العاطفية على أنها شيء مشين، والبعض الآخر ينظر لها أنها مجرد وسيلة للزواج -أنا أعتقد أن الزواج وسيلة شرعية مجتمعية، تمٌكن شخصين من العيش معًا، في إطار قبول مجتمعي للحفاظ على علاقة حقيقية بينهما- والبعض الآخر يعتقد أنها وسيلة للتفاخر، أو للإيقاع بشخص ما، والأكثر من ذلك أن هناك من يعتقد أنها مجرد وسيلة للحصول على مكاسب مجانية، ربما سيدفع ليحصل عليها بطريقة أخرى!

أما العلاقة العاطفية من وجهة نظري، فهي إتفاق بين شخصين على خوض تجربة ارتباط وإلتزام عاطفي، بعد حدوث إنجذاب (إعجاب) وتوافق مبدئي، وهي عملية بناء في حد ذاتها.

وحتى تنجح عملية البناء هذه، لتتحول من علاقة ناشئة إلى علاقة حقيقية، يجب أن تتوافر لها ثلاثة شروط، أولها الإنجذاب الحقيقي، تجانس الشخصيتين، توافق الرؤية المستقبلية.
وهنا أعني بالإنجذاب الحقيقي أنه ليس إنبهارًا وقتيًا، فعادة ما ننبهر بالمختلف أو غير المعتاد، حتى لو كان إختلافًا لا نستطيع تقبله أو التأقلم معه، وهذا النوع من الإنبهار الوقتي الذي لم يتكون عن قناعة، يتلاشى تتدريجيًا مع مطبات الحياة.

كما يجب أن نؤمن بالفعل أنه إنجذاب يحقق لطرفي العلاقة فكرة الإكتفاء، وأحيانا في بعض الأمور المعقدة تستطيع تطويره إلى (إقتناع) تتمكن بقوته إذا كنت مضطرًا إلى الإستغناء عن أشياء أو أشخاص.
أما تجانس الشخصيتين، فأعني به (التكامل)، من الصعب جدا بل من المستحيل أحيانًا، أن تستقيم تماما علاقة يحمل فيها الطرفان نفس نقاط الضعف أو القوة، أو توجد بينهما إختلافات متأصلة بداخلهما في طريقة تعاملهما مع أمور الحياة اليومية، أو إختلافات جذرية في أمور إيمانية أو مباديء راسخة أو نظرة كل منهما للحياة والمجتمع.

أعني بـ متأصلة أنه لا توجد رغبة لدى أي من الطرفين على تغييرها، وأحيانا لا توجد قدرة على التغيير.

أما الرؤية المستقبلية، فاقصد هنا أنه سيكون هناك تعارض بين ما يحلم به كل طرف من طرفي العلاقة، كيف يرى كل منهما المستقبل بطريقة مستقلة، بشكل شخصي كما لو كان لم يقابل طرف العلاقة الأخر بعد.
هل هناك نقاط تقارب وإتفاق كثيرة؟
هل الإختلافات بسيطة بالقدر الذي يمكن أن يحدث التواحقًا؟
أما أن طرفي العلاقة، أو أحدهما يحاول عمل مؤاءمة تخالف حقيقة المستقبل الذي يحلم به، ويؤمن بها لنفسه.
ولعل هذا الشرط أكثر خطورة من سابقيه لأنه ربما سيكون تجليه ووضوحه مؤجلًا.
كما أن هناك مجموعة من المصطلحات، تمر عليها العلاقة العاطفية، كمرور التجربة على المعايير، فتعطي إنطباعًا إيجابيًا أو سلبيًا، ولعل أهمها من وجهة نظري:

المسؤلية: تختلف مسؤليات كل علاقة عن الأخرى، وفقًا لإختلاف الظروف المحيطة، والسمات الشخصية لطرفي العلاقة، ورغم أن الطبيعي أن تكون مسؤلية مشتركة، إلا أنه في معظم الأحيان يحمل أحد طرفي العلاقة مسؤلية أكبر من الطرف الآخر، لكن في الوقت ذاته يجب أن يحمل الطرف الآخر قدرًا مناسبًا من المسؤلية.
الاحتواء: هو قدرة كل طرف على إحتمال وإحتواء تقلبات الطرف الآخر، والتعامل معها بقدر من الرفق والهدوء، بل والخروج منها بتطور إيجابي حقيقي، كعلاج لمشكلة أو تقبل حقيقة ما.
الإحترام المتبادل: لا أقصد هنا المعنى السطحي لهذا المفهوم، بل يجب أن يكون قناعة حقيقية لدى الطرفين، أشعر أني بالفعل أحترم وأثق في عقل وسلوكيات طرف العلاقة الآخر.
النضج: يجب أن يكون طرفي العلاقة قد وصلا إلى مرحلة من النضج الكافي، أو في سبيلهما للوصول إليها، للمشاركة الحقيقية في عملية بناء هذه العلاقة.
كل ما سبق وأن أشرت إليه، لن تستطيع إطلاقًا أن تقيمه أو تفهمه عن طريق الكلمات، فما أسهل أن أقول ما لا أصدق، ولكن فقط وحدها (السلوكيات والتصرفات) هي ما تمكنني من الوصول إلى إنطباع حقيقي، عن علاقة أنا أحد أطرافها.
وأخيرًا: كل ما يتعلق بالعلاقات العاطفية لا يمكن أبدًا الحكم عليه نظريًا، إنها تجربة يجب أن يمر بها الإنسان، قبل أن يستطيع تقييم تلك العلاقة التي يمثل هو أحد طرفيها، رغم أنه يمكنه أن يستشير ويستمع للآخرين، ولكنها في النهاية تبقى مجرد آراء تمثل وجهات نظر مختلفة، هو فقط من يملك أن يتبنى هذه الآراء أو لا، هو فقط من يتعرض للسلوكيات والتصرفات، يشعر بالسعادة والفرحة، أو الأذى والامتهان، هو من سيهنأ إن كان إختياره سليمًا، وسيدفع الثمن إذا كان إختياره متهورًا.
في النهاية: العلاقات العاطفية ليست حكمًا مؤبدًا لا تستطيع تغييره، إنها تجربة وإختيار، والفيصل في أن تستمر أو تتوقف هو قرار تتخذه أولًا حرصا على نفسك، وحرصًا على مصلحة الطرف الآخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top