آميتاب.. قصة لعبده البرماوي

 

جاءت اللحظة الفارقة كالمعجزة.. قبلها، خرج الأمر عن السيطرة، وبدا لي ألا مفر من الاستمرار في التعارك معه رغم تفوقه الجسماني. راهنت لوهلة على رقة قلبه وتفهمه، لكن هذا الوهم انفض مع ثقل لكماته التي طالت وجهي في هذا الظلام، كمال أن ما آملته من تدخل بعضهم ليفرقوننا ذهب أدراج الريح، فبعضهم هذا كان يقوم هو الآخر بدوره المقدس في الدفاع عن معشوقهم الطويل الواثق من نفسه. عاجلته بلكمة سريعة وأنا أهتف: كس أمك على كس أم آميتاب بتاعك. وجرى من بعدها ما جرى. لم أدرِ ما الذي أفضى بنا لهذه الحال، لكن على أي حال يظل آميتاب سببا واضحا من أسباب الحكاية؛

 

كان بالإمكان أن أتعلل بأي سبب لتأجيل الرحلة الثقيلة على قلبي لبضع أيام، إلا في هذه الحالة، فلا سبيل معها إلى تنصل أو مراوغة. ظهور آميتاب هو إشارة سداد الدين؛ والوفاء بالفرض الإجباري لوليد المهووس بالأفلام الهندية.

 

تأتي الإشارة حين انتفض فزعا من صوته الحماسي اللحوح المنطلق من مدخل البيت. أدرك أن ملخص زعيقه هو المطالبة بمرافقته للسينما ودفع ثمن التذكرتين. لأجل هاتين التذكرتين كان يرضي بابتزازي الدائم له، وفي سبيل مشاهدة معشوقه، يرضخ لأوامري التي تجرجره في إثري لعشرات المشاوير، ولا يتململ عندما أجعله ينجز أسوأها ويحمل عني ما لا أطيق مما يأمر به والدي.

 

الذهاب لحفل الظهيرة كان شرطا فرضته؛ فالحفل الذي يستمر لما دون السادسة، يخلو تقريبا من نوعية الجمهور الصاخب والحاد الذي أكرهه من مراهقي المدارس المزوغين مثلنا، وعمال سوق الخضار بروض الفرج ممن تعطلت أعمالهم، فضلا عن أناس يأتون من الريف القريب من القاهرة، كانوا لا يتورعون عن افتعال المعارك ويصخبون بالتهريج السمج والملاسنات أثناء عرض الفيلم الأول. شبرا بالاس كانت موئلهم المفضل كانت ساحة من ساحات الجحيم بالنسبة لي؛ لكن كنت أرضى بها فالمهم بالنسبة لي أن سعر تذكرة الدخول لها يقل عن سعر تذكرة السينمات الأرقى في وسط البلد؛ كما أنها قريبة ويصل إليها الترام، وهو وسيلة المواصلات الأولى لهواة التزويغ من عينتي أنا ووليد. يظل وليد يتقبل رحب النفس كل هذا التأفف والتذمر مني؛ فالأمر لا يفرق معه، طالما أنه سيطالع معبوده الطويل الواثق من ذاته حين يضرب أو يرقص أو يلقي بعظة أكثر تأثيرا في قلبه من عظة الجبل.

 

أجد تعويضا صغيرا عن هذا العناء في خلال الجزء الأول من الحفل، حين يسبقون عرض الفيلم الهندي بفيلم حركة أمريكي أو صيني من هونج كونج، أو حتى تركي من إياهم. أتجاهل أنه عادة ما يكون فيلما بالغ التفاهة، ومشذب لحدود إجرامية، دافعها حرص المسئولين عن السينما على تقليم شريطه، بحيث لا يتعدى الساعة، فيعرض \”موبينة\” واحدة، مخليا الوقت لعرض الفيلم الهندي بكامله. وفي حين أعاني من العدوان على الفيلم الوحيد الفقير الذي لا يتابعه أحد تقريبا سواي، ويظل الهرج والمرج سائدا داخل السينما أثناء عرضه، كان هذا القطيع الخطر على النقيض، إذ لا يعرف التسامح مع أي قطع يمس فيلمه الهندي، كما لا يتصور فقدان لقطة أطل فيها باتشان بوجهه. حدث هذا مرات قليلة حيث اقتطعت لقطات بسيطة جدا فساد الهرج والمرج، بما اضطر مسئول السينما لمخاطبة الجمهور والاعتذار بسبب تلف أصاب الموبينات خلال تغييرها، كنت اندهش وأتساءل كيف يعرفون أن اختصارا قد جرى على فيلم يجاوز الأربعة ساعات؟

 

اللحظات التي تتلو الاستراحة بين الفيلمين كانت بمثابة مبتدأ العذاب بالنسبة لي، كابوس يبدأ بموجة من الصفير المزعج والتصفيق الحاد تصحب تسلسل الأسماء على الشاشة، ما تلبث أن تنقلب لانفجار كبير بمجرد بروز إسم آميتاب. وليد الغارق في صخبه السعيد لم يستوعب يوما فقداني الاهتمام بهذه النوعية من الأفلام؛ كل الأفلام الهندية لدي هي قصة واحدة يروونها ويصورونها من ألف زاوية. لم يمل صديقي الشغوف يوما من تكرار محاولة إغوائي بفهم ماهية السينما الهندية كما يفهمها هو، ولم يكل من سعيه نقل هذه الحماسة إلي، ولم أتوقف عن احتقارها حتى جاء هذا اليوم.

 

جاء مع أول إجازة الصيف، إذ مر وليد على بيتنا، وناداني، وما أن أطللت له حتى أخذ يبشرني بحماس يصل به لحد التقافز بأن فيلما جديدا قد نزل في \”شبرا بالاس\”. ما تهجست منه بسبب مستوى الحماسة المبالغ فيها التي يتحدث بها وليد أنها تنبئني بكون الفيلم ليس فقط من بطولة آميتاب، بل أن من سيواجه آميتاب في الملحمة الدائمة هو أمجد خان، عدوه الألد، والذي سيضاعف حجم صخب وليد والمهاويس في السينما حين يشتبك مع بطلهم في عراك دام يطول عشرات الدقائق.

صحبته راضخا في تلك الظهيرة، ولساني يلهج بالدعاء لله أن يمررها بخير، وتعوذت لما أطلت عيني على آفيش الفيلم المرسوم باليد، يحتل واجهة السينما العريضة، بوجه آميتاب الواثق وفي مواجهته أمجد خان بملامح العتو الشريرة والساخرة التي تميزه. استجاب القدر ومر فيلم \”الشعلة\” بسلام.

في الأسبوع التالي، جاءني وليد وقد ملأه حماس أكبر وهتف وهو يكاد لا يصدق نفسه؛ فيلم جديد اسمه \”وداعا ولدي\”. وبمستوى الحماس ذلك الذي يعني أن من سيواجه آميتاب فيه هو أمجد خان. ذهبنا، وخلال العرض وجدت الفتور العادي الذي يغلبني قد انضاف إليه شك بأنني قد شاهدت هذا الفيلم من قبل. فكرت في الإفصاح لوليد عن الأمر لكنني تراجعت مخافة أن ينفعل ويتهمني بإفساد متعته، إلى أن جاء اليقين من الصفوف الخلفية لحظة هتف أحدهم: ده الفيلم بتاع الاسبوع اللي فات يا ولاد المتناكة، وضجت قلة من الحضور في القاعة بهتاف سيما أونطة هاتوا فلوسنا. ساد الهرج والمرج للحظات لكن سرعان ما خمدت الثورة بعدما قامت قلة من عتاة المتفرجين بقمع المعترضين سريعا، وفروا جميعا هاربين حين أضاءت القاعة، وبدا أن من فيها يتنمرون لهؤلاء التافهين ممن يفرق معهم أن الفيلم هو ذاته الذي كان يعرض قبل أسبوع.

بالطبع أكملت في صمتي، ولم يكن من العقل مع حالة النشوة التي تكتنف وليد بعد مشاهدة آميتاب وقد سحل أمجد خان، أن أؤيد المطرودين المشككين في أصالة الفيلم، ونكلت عن مصارحته بأن الفيلم هو هو دون نقصان، لم يجر عليه إلا تغيير طفيف، إذ بدل القائمون على السينما الموبينات، جاعلين أجزاء من أواسط الفيلم الطويل تعرض في أوله، بعدما استغنوا عن التترات لخداع المشاهدين، بادئين بلحظة اشتباك ومطاردة بين آميتاب وأمجد خان أطلقت موجة الجنون والتصفيق، تلاها كتم الأنفاس لمتابعة الملحمة.

لم يمض الأسبوع، حتى جاء وليد في ليلة ظل يشوي أبدان الناس فيها الحر والرطوبة، جاءني وقد علا حماسه، يهتف: فيلم جديد يا معلم، جديد خالص، إسمه \”شولاي\” لازم نروحه بكرة. بالطبع ذهبنا و… وفي منتصف الفيلم، كان علي أن أهتف مع الهاتفين بأنها سينما أونطة، وأن ما نشاهده هو ذاته الفيلم الذي يعرضونه منذ إسبوعين بعناوين وأفيشات مختلفة. حاول منعي من الصراخ، فلكزته وزدت في الهتاف وتهييج من حولي، أمسك بيدي، فكان ما كان بعدها من لكمات وضربات في الظلام.

هنا كانت اللحظة الفارقة.. عندما انتبه أنه ليس وحده من يضربني، تحول فجأة، وبلا مقدمات، وقد حمسته موسيقى الفيلم الذي تدور أحداثه على الشاشة، وبدأ في دفع الآخرين عني، فاشتبكوا معه هو الآخر، وهنا أبدى وليد لي حقيقة ما كان يختزنه منذ زمن، وشاهدت بأم عيني كيف واجه صفين من الهائجين، وأمّن لنا مخرجا بعدما كال اللكمات والشلاليت لنصفهم على الأقل، كنت ممتنا له، ومن بعدها صرت أذهب معه راضيا مختارا لأفلام آميتاب بغير قيد أو شرط.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top