بالأمس كنت طفلة أشاهد الأفلام الكوميدية وأضحك.. لم أكن أفهم سوى \”الإفيه\” المباشر، ولا أدرك مما أسمعه سوى نص الحوار، فأضحك.. تهتز ضلوعي وتوجعني.. يعاد الفيلم مرات ومرات، وفي كل مرة مع الإعادة يخف الضحك.. يقل اهتزاز الضلوع.. ولكن الضحك يستمر.
الآن لست طفلة.. أعرف ما يعنيه مصطلح الكوميديا السوداء، وأفهم ما وراء الكلام، وأدرك غير المسموع من مغزى الحوار، فأضحك، ينقبض قلبي ويوجعني.. يعاد الفيلم مرات ومرات، ومع كل إعادة يخف الضحك.. يزداد انقباض القلب.. إلى أن يتوقف الضحك.
في مشهد من فيلم \”جاءنا البيان التالي\”، يقف المواطن المصري المتواضع \”عم متولي\” خلف الأسوار يردد \”حسبي الله وعم الوكيل\”، ويسرد تفاصيل تلفيق تهمة له من صاحب البيت قائلا بالنص: \”وعشان له قرايب مهمييين، إترميت هنا بقالي شهر ومن غير تهمة\”، وختم حديثه بالحسبنة مستسلما لقدره.
……………….
جاءنا البيان التالي: المواطنة آية حجازي، شابة في مقتبل العمر، قابلت حب حياتها \”محمد حسانين\”، وقررا التنازل عن فكرة المهر والشبكة والزفة وخلافه، مقابل تأسيس جمعية \”بلادي\” لرعاية أطفال الشوارع، جعلت آية وزوجها الأطفال يمارسون أنشطة ثقافية وفنية ورياضية، حتى رأيناهم يطلون علينا يوما من شاشة التليفزيون في صورة أبهرت الجميع. حولت آية وزوجها أطفال الشوارع الجهلة المتسخين المتحرشين لأطفال متعلمين نظاف وفنانين.. تم تلفيق عدة اتهامات لآية ولزوجها، منها استغلال الأطفال والتعدي عليهم! ورغم أن تقرير الطب الشرعي أثبت بالكشف على كل الأطفال عدم تعرض أي منهم لإعتداء من أي نوع، إلا أنها وزوجها رميا في السجن منذ عامين وحتى الآن بتجديد الحبس الاحتياطي، ولا يمكن التكهن بمصيرهما حتى الآن.. آية وزوجها محمد حسانين يدفعان من حريتهما وعمرهما ثمن غلطتين: الأولى إنهما أحبا مصر، والثانية أنه ليس لهما أقرباء مهمين.
………………..
جاءنا البيان التالي: المواطن محمود أبو زيد الشهير بـ\”شوكان\”، مصور شاب كلفته الوكالة التي يعمل بها بتصوير فض اعتصام ميدان رابعة العدوية.. قامت قوات الأمن بالقبض عليه أثناء تأدية عمله كمصور صحفي وضربه وتجريده من معداته، ولفقت له اتهامات من نوعية الانضمام لجماعة الإخوان المسلمين والتجمهر والتظاهر!
ورغم أن الوكالة قدمت ما يثبت أنها من كلفته بالمهمة، ورغم مطالبة نقابة الصحفيين وكل الجمعيات المعنية بالحريات بطلبات عديدة للإفراج عنه، إلا إنه مازل مرميا في السجن منذ عامين وحتى الآن بتجدبد الحبس الاحتياطي.
شوكان مريض بفيروس الكبد سي، وحالته الصحية في تدهور مستمر.. لم تشفع له أمام التنكيل به مرات عديدة، آخرها نقله الأسبوع الماضي للتأديب بعد إجراء إدارة السجن بتفتيش العنابر والعثور على تليفون محمول لا يخص أحد السجناء الذي اعترف أنه يخصه لا يخص شوكان، ورغم ذلك قام رئيس المباحث تعنتا يوم الجمعة الماضي بنقل شوكان للحبس الإنفرادي في زنزانة تحت الأرض مظلمة.. رطبة.. دون تهوية، أو غطاء.
شوكان يدفع من صحته وكرامته ثمن غلطتين: الأولى أنه قام بتأدية عمله، والثانية أنه ليس له أقرباء مهمين.
……………….
جاءنا البيان التالي: المواطن محمود محمد أحمد الشهير بـ\”معتقل التيشيرت\”، مراهق في بداية المرحلة الثانوية كان عمره وقت القبض عليه 17 عاما.. قبض عليه في الذكرى الثالثة لثورة يناير للبسه تيشرت مطبوع عليه جملة \”وطن بلا تعذيب\”.. لفقت له اتهامات الانتماء إلى جماعة إرهابية والتحريض على أعمال عنف.
مازال محمود مرميا في السجن بتجديد الحبس الاحتياطي لمدة تعدت العامين، رغم إدانة 13منظمة حقوقية لهذا الخرق الصريح للقانون، لتخطي محمود الحد الأقصى المسموح للحبس الاحتياطي، وتأجيل أكثر من 17 جلسة لدواعٍ أمنية.
محمود يدفع من طفولته ومستقبله ثمن غلطتين: الأولى أنه آمن بثورة يناير فحلم بوطن بلا تعذيب، والثانية أنه ليس له أقرباء مهمين.
……………….
بات واقعنا موجعا لدرجة تعجز أمامها السخرية التي اعتدناها لتقبل وجوده، و\”جاءنا البيان التالي\” لم يعد فيلما كوميديا أسود، بل واقع أسود تتوالى بياناته على شعب –إذا استثنينا منه قضاته وضباطه- ليس له أقرباء مهمين.