سبع خطوات لأغادر الغرفة، ثلاث خطوات إضافية لأصل إلى المطبخ.
أنظر إلى الباب المفتوح، أحاول النهوض، أُذكر نفسي بأنهن مجرد عشرة خطوات سخيفة لأشرب وثلاث دقائق لأعد القهوة.
ولكن رغم ذلك لن أغادر الفراش قبل نصف ساعة على الأقل، ثلاثون دقيقة من التفكير في كيفية النهوض والوصول إلى المطبخ، أشعر بالعطش، أرغب حقًا في تحريك قدمي قليلًا، ولكن لا طاقة لي حتى لأجلس.
أنا فقط مُمَددَّة هناك أحاول رفع رأسي على وسادة إضافية، ولكن غالبًا ستكون الوسادة أبعد من أن أمُد ذراعي لتلتقطها يدي، فلن أحضرها.
قبل \”غَزل\” لا شئ كان ليُحركني من سريري، كنتُ أبقى هناك حتى يخفُت الضوء شيئًا فشيئًا ويبدأ الظلام في مضايقتي، وما كنتُ لأنهض أيضًا، كنتُ أفكر طويلًا في حاجتي للذهاب إلى الحمام، وهناك كنتُ أتذكر رغبتي الشديدة في الاستحمام.. إحتياجي لأن يغمر الماء البارد رأسي ويغسل أفكاري ويغسلني، ولكني أخاف الماء البارد وأخاف انهمار الماء فوق رأسي.. إنه يذكرني بالغرق!
لم أمر بتجربة الغرق قط، ولكني أعرف ذلك الإحساس جيدًا، يراودُني كل بضعة أيام.
في أحلامي، تغمرني المياه فتفشل كل محاولاتي للتنفس، أشعر بالماء يتسلل داخلي ويخنقُني، أحاول الخروج إلى الهواء ولكن جسدي ثقيل، ولم أتعلم السباحة يومًا، أحارب الماء.. تتحرك يدي في كل إتجاه، أحاول الوصول إلى السطح ولا أصل.
إنني فقط في القاع.. أغرق أستسلم للغرق والاختناق.. أستيقظ فَزعة.. أستميت لالتقاط أنفاسي، يستغرق الأمر دقيقة لأتنفس ودقائق حتى تهدأ ضربات قلبي، ودقائق إضافية لتنتظم أنفاسي.
تجربة الغرق ليست دومًا سيئة.
أحيانًا أستمتع بالغرق.. أحيانًا أُلقي أنا بنفسي إليه.. هناك على كوبري قصر النيل أقف في حلمي مرتدية فستان أبيض طويل يكشف عن كتفاي، وشعري القصير حر يتنفس ويتحرك مع الهواء.. أشعر بحماسة وإنتشاء غير عاديين، أقف بثبات وراحة، وألقي بنفسي إلى أعماق النيل الثقيل.. أشعر بالخفة في قفزتي.. أشعر بالخفة رغم الماء الذي يُثقل رئتي.. إنني في القاع تمامًا، ولكنني أرى الضوء بوضوح، رغم أننا في الحقيقة في عتمة الليل، ولكنني أتنفس الغرق وأشعر بالشمس تُلون شعري وتضئ وجهي.
أستيقظ بسلام خَفي، أتذكر تفاصيل الحلم، ورغم أنني أدرك سوداويتها، إلا أن ذلك لن يُغير إحساسي بالراحة والسلام.
في هذه الأيام حيث الغرق تجربة مريحة، أستيقظ بسلام، أتحرك بخفة إلى الحمام، أقف تحت الماء الدافئ بهدوء، أستمتع بانسياب الماء على جسدي، أشعر به يحاوطني يحتضنني، لا أخشى الغرق، لا أختنق، وأُبعِد الماء عن وجهي في ذعر، ولكنني أتركه يُزيل ما يمكن إزالته من أفكار.
أستمع إلى صوت الماء، أركز في ذلك الصوت وأتمنى لو أن صوته يعلو على أصواتي الداخلية فيُخرس السبع نساء بداخلي، والجارة الشريرة الثرثارة التي لا تنفك تبث سموم أفكارها في عقلي وقلبي، ولكن أصواتي لا يعلو عليها صوت، هي فقط تهدأ قليلًا.
أفكر في كل ذلك وأنا أقف في المنتصف بين غرفة نومي والمطبخ، هاتفي على الأرض ببطاريته الفارغة، أتامله مرارًا، أردد:
كل ما عليكِ فعله هو الانحاء والتقاطه، سيبقى في يدك حتى تصلي إلى الغرفة.
ولكن لا طاقة لدي لأنحني، ماذا سأفعل به على أية حال؟!
أنظر إلى المطبخ وأتذكر السرير و\”غزل\” النائمة.
تُذكرني معدتي بالجوع، ويذكرُني الهدوء بأنني أحتاج إلى الراحة، وتحذرني عيني من أن إضاعة الوقت في التفكير في كل هذه السخافات سيعيدُنا إلى دائرة الأرق.. إنها تؤكد علي أنني سأضّيه فرصة.. إنها تنغلق تلقائيًا، ولكنني أشعر بالجوع والعطش وأحتاج إلى هاتفي لأنه هو ما يوقظني في الصباح.
أعود إلى غرفتي، من سريري أنظر إلى هاتفي المُلقى على الأرض، أكره عيني التي لا تنام وعقلي الذي لا يتوقف عن العمل وقلبي الذي لا يهدأ وتقطع خفقاته السريعة أنفاسي، ظهري يؤلمني قليلًا ورأسي سينفجر من الألم، أحاول أن أتذكر كم حبة مُسَكن إبتلعتها اليوم بلا طائل.
أشعر بالدوار والغباء والسخافة والثِقل.. أفكر في أن اوقظ \”أحمد\” ليُحضر لي المُسَكن والهاتف، أنظر إليه وأشفق عليه: ما الذي يُجبره على احتمالي؟
أتركه نائما، على الأقل أحدنا يَنعم بنوم هادئ خالٍ من الكوابيس والأحلام المُرهِقة، أتحرك أخيرًا.. أحبس أنفاسي وأنحني لالتقاط الهاتف، أدخل سريعًا إلى المطبخ.. أخذ آخر حبة مُسَكن.. أكتب في ورقة: (لا تنسي المُسَكن)، ولكنني سأنسى، سأنسى أنني كتبت الورقة من الأساس!
أرغب في الانتحاب، لا في البكاء.. أحاول إستجداء الدموع ولا تأتي، أغرق في أفكاري، تُحبس أنفاسي تمامًا، كما يخنقني الماء، أسمع صوتا خافتا لموج عالٍ يتخبط بالشاطئ وكأنه يردد لعنة ما تُبقيني مُستيقظة.. تبقيه بداخلي، وإن كان أبعد ما يكون عني.
البحر الغاضب بداخلي أغرق فيه أحيانًا وأسبح مع التيار أحيانًا، ولكنني دومًا وأبدًا أقاوم الماء والغرق بيدين ضعيفتين وجسد ثقيل لا يعرف السباحة.
أستيقظ لأجد نفسي على الأريكة نائمة، لا أنام عليها أبدًا بالأساس هي ليست مُريحة، يُوقظني الحر والعرق.. كيف وصلتُ إلى الصالة؟!
أحاول طويلًا أن أتذكر ولا أتذكر أي شئ، أنا هُنا في الحر أشعر بالشمس تقف فوق رأسي مباشرةً وتسلِط عليّ أشعتها الحارقة، رأسي يغلي من الحرارة والصداع، جسدي ثقيل.. كلبي الأسود الذي فاقني حجمًا يجلس بثقله على صدري.. يسند يديه على رأسي فيستحيل عليّ أن أرفعها أو أتحرك من مكاني مهما قاومت.
أنا حقًا أقاوم؟ لا أحد يُصدق ذلك، ولكنني أقاوم.. أشتري كل تلك الدفاتر الملونة وأكتب، أسجل متى يبدأ ذلك الوحش الأسود في الظهور.. أدون ملاحظاتي عما يساعدني في إخافته أحيانًا، وإن كان ذلك نادر الحدوث، ولكني أكتب.
ألاحظ العلامات التي تسبق حضوره لأعلم مُسبقًا أنه أتي، فأستعد بكل ما أوتيت من قوة.
أراقبني وأحللني عن كثب وأحاول وأحاول، فقدت بعض الوزن الذي كان يُغيظني ويشجع كلبي على ترديد كل عباراته الهادمة لثقتي بنفسي، أعمل وأجني بعض المال من وقت لآخر، أجبر نفسي على الكلام مع الأغراب بود، كسر الجليد مع أصدقاء أصدقائي، أخرج مع أحد غيري من وقت لآخر. أحاول الاستعداد ولكني في قمة قوتي لازلتُ ضعيفة امامه.
أذهب إلى الطبيب، يُحللني يُزعجني وأحتمله.. آخذ كل الأقراص الموصوفة لي فأنام في أي وقت في أي مكان.. أفقد إحساسي مؤقتًا بكل شئ.. أُغير الطبيب عندما يصبح إزعاجه لا يُحتمل، ويزعجني الطبيب الجديد مجددًا ويرهقُني الدواء الجديد كالقديم، وقد أكتشف أن الدواء القديم أفضل، ولكن الطبيب الجديد يساعدني أكثر، ولكنه لا يقتنع بالدواء الآخر، فأقف هناك محتارة ومنزعجة ومُرتابة، ولكن إن كان هذا ما يجب عليّ فِعله ليصدق العالم وأصدق أنا أنني أقاوم، وأنني بالطبع لا تُعجبني صُحبة الوحش الأسود، فسأفعله.
لا أشعر بالراحة، ولكنني في منتصف إحساسي بعدم الراحة أكون في أفضل أوقات راحتي.. أن أكون فقط غير مرتاحة، فذلك جيد جدًا ويُمكن احتماله.
تكمن المشكلة في المرحلة التي تلي عدم الراحة.. أنا لا أذهب إلى الطبيب وأدفع له كل هذا المال ليحللني ويستمع لمخاوفي بلا اكتراث، فقط لأني لا أشعر بالراحة.. أنا أذهب إلى الطبيب لأني أختنق.
الكلب كائن لطيف، الاكتئاب ليس كلبًا.. ليس غيمة سوداء ولا غرق، إنه أكثر من ذلك بكثير.
يُردد زوجي من وقت لآخر إنه فقط في رأسك!
عندما أغرق في أحلامي، يكون الماء فقط في رئتي، ولكنني أغرق على أي حال.
أنا منهكة طيلة الوقت، تُذكرني غرفتي المُبعثرة بأنني لا أفعل أي شئ على الإطلاق.. أنا لا أرتب غرفتي أو أواظب على أي شئ، ولكنني مُنهكة ومرهقة وأشعر بالدُوار والصداع والرغبة في القئ، ولا أقوى على الحركة.
لا يفهم أحد ما معنى أن يرغب المرء في شئ بشدة ويكون هذا الشئ هو مجرد الذهاب إلى مكان ما ولا يذهب إليه، لأنه يشعر أنه غير قادر على الحركة، رغم أنه -جسديًا- لا خطب بقدميه.
لا خطب بقدمي، ولكنني أيضًا أعجز عن الوقوف والحركة، أحلم بأن ساقي مبتورة من وقت لآخر.. في أحلام أخرى أراني قزما فقيرا مشلولا!
أحب أصدقائي، ولا طاقة لي لأسمع أصواتهم أو أراهم كثيرًا.. أنا فقط أفكر فيهم بقلبي، أتابعهم بصمت على شبكات التواصل الاجتماعي، أطمئن على أنهم بخير، فلا أشعر بالذنب لأني لا أرد على إتصالاتهم، ولا أعيد الاتصال بهم، ولكن أشعر بالوحدة والاحتياج.. أشعر بالوحدة والاحتياج والذنب، ولا أستطيع مهاتفة أحدهم.
سأشعر بالذنب لو رأيت طفلًا مريضًا أو عجوزا يتسول أو صديقا حزين، سأشعر بالذنب لو لم أكن مُذنبة، وسأبكي ليالٍ كاملة لو كنتُ بالفعل مذنبة، وسأضيع كثيرًا في التمييز بين الحالتين.. سأؤنب نفسي كل يوم على كل خطأ ارتكبته في حياتي.. سيذكرني كل ذنب بالآخر.. سيذيبُني الإحساس بالذنب تمامًا ويحولني لكتلة من الخجل والضيق تقطر طاقة سلبية أينما تحل.
أرغب في الالتحاق بوظيفة، أرتب مواعيد للقاء الأصدقاء، أطمح لإنجاز الكثير من الخطط والأعمال، ولكنني لن أبالي بهم جميعًا، سأمزق دفتر خططي وأتمدد تحت الغطاء بالكامل وأخفي وجهي وأبكي.
أبكي على كل الأشياء التي أرغب حقًا في إتمامها، ولا أهتم بها في نفس الوقت.. أغضب من إحساسي الدائم بالخوف والذنب وقلة الحيلة.. أتمزق من إحساسي بالثِقل واللاأهمية.. أشعر أنني غير موجودة، أنظر إلى وجهي في المرآة، أتحسسه لأتاكد أنني هناك.. أنا موجودة، ولكنني غير مرئية وعديمة الجدوى وخالية من الحياة.
أشفق على نفسي.. أحتضنني برفق، أخبرُني أن ذلك الصوت اللئيم ليس صوتي ولكنه صوت الاكتئاب، وأنني يومًا ما لن أفكر في الانتحار يوميًا.
توقفت عن أخذ الدواء، ولم أر طبيبي منذ أكثر من شهر، ولكنني كل يوم أردد بصوت مسموع: \”أنتِ بخير\”.
آمر أفكاري السلبية بالخفوت، لا تصمت ولكنني أستطيع تجاهلها أحيانًا.
نسائي السبع وجارتي الثرثارة دومًا يقبعن في خلفية عقلي، ولكنني اليوم سأتجاهلهن أيضًا، وإن لم أستطع إلا الوقوع في شركهن، فسأخبر نفسي في اليوم التالي أني اليوم سأكون بخير، وسأنجح في تجاهلهن فترة أطول، وأنني في المرة القادمة سأطرد جارتي وأحاول الإصلاح بين نسائي.
سأعود إلى الدواء والطبيب والكتابة والعمل والحياة الاجتماعية، أضحك.. أنا أدور في هذه الدائرة المُفرغة منذ الأزل، وأبكي لأنني أضبط نفسي وقد يأستُ من أن هذا الشبح قد يتركني لحالي يومًا.