آلاء الكسباني تكتب: وما نحن إلا عبيد إحساناتهم

(1)

قرأت منذ يومين خبرا على موقع التواصل الاجتماعي- فيسبوك- عن سيدة من مؤيدي مبارك تنهر شابا هتف ضده, وملحق بالخبر بعض الصور لها وهي تعتدي عليه بالضرب وتجذب بنطاله –لامؤاخذة – إلى الأسفل.

لم افهم أبدا ما سر حب الفلول وفئة \”أنا آسف يا ريس\” في فترة حكم مبارك وترحمهم على أيامه المليئة \”بالخيرات\”, ولم استسغ قط الغرض من وجود صفحة على الفيسبوك تتلخص كل منشوراتها في نشر الصور القديمة للعائلة الملكية المصرية واشادتها بأيام \”العز والنغنغة\” في ظل الإقطاعيين آكلي أموال الشعب.

وحاولت مرارا أن اضع نفسي مكان أي شخص \”ناصري\”، وادخل في دهاليز عقله لأفهم سر الهالة المحيطة بعبد الناصر لديه, كما لم افهم قط تبرير المواطنين الشرفاء محبي عجلة الاستقرار للاعتقالات العشوائية وأحكام الإعدام بالجملة، وشغفهم بأخبار تعذيب المعتقلين وتخوينهم لأي شخص يصرح بأي رأي ضد النظام, النظام ذاته الذي يقمعهم، ولا يتورع عن ممارسة القهر والظلم عليهم! لم افهم لما يسبحون بحمد النظام ويمجدون قدرته على إدارة شؤون البلاد بيد من حديد, مشيدين بهمته في الإمساك بذمام الأمور وتلابيب المعارضين, إلى أن قرأت عن متلازمة ستوكهولم.

(2)

متلازمة حب الجلاد, أو ما يُعرف بمتلازمة \”ستوكهولم\”, هي مرض نفسي يجعل الإنسان يرتبط عاطفيا بجلاده ويحبه حبا شديدا، ويبرر له القسوة والعنف والتعذيب، وحتى التهديد بالقتل, اطلقها عالم النفس المتخصص في الجرائم \”نيل بريوت\” حين كان يساعد الشرطة السويدية في التحقيق في جريمة خطف 4 أشخاص أثناء السطو على بنك, حُبس المختطفون 6 أيام متتالية في قبو مظلم وبارد, وبعد نجاح الشرطة في القبض على الخاطفين، ودعهم المختطفون بالعناق والبكاء!

شرح \”نيل\” متلازمة ستوكهولم قائلا إن الضحية تقع تحت ضغط نفسي وعصبي كبير، فيبدأ عقلها – لا إراديا- في صنع آلية نفسية للدفاع عن النفس، وذلك من خلال الاطمئنان للجاني, فتتصيد الضحية أي حركة تنم عن اهتمام أو حنان من قبل الجاني وتضخمها, بل وتتخيل الضحية مقدار الضرر الذي سيقع عليها إذا حاول أحد تخليصها من إيذاء الجاني, فتخاف المخاطرة، وتركن إلى البقاء في ظل الجاني وتحت رعاية \”قسوته\”.

(3)

لم يقصر التاريخ متلازمة ستوكهولم على المصريين فقط, فهناك الكثير من الوقائع التي تدلل على أن الشعوب دائما ما تبكي جلاديها, فقد بكى معتقلي ستالين يوم وفاته حزنا عليه, كما يذكر التاريخ خروج حوالي سدس الشعب في جنازة الخميني, لاطمين وجوههم, باكيين ناحبين, كانت جنازة مهيبة تنم عن شدة حب الشعب للخميني.. نعم, هو ذات الخميني الذي تجبر وطغى وأفسد البلاد بعد أن تسلمها حرة, وحولها إلى قرية من زمن العصور الوسطى!

وقد برع المصريون منذ قديم الأزل في صنع الفراعين, فهم يهيمون عشقا بجلاديهم على مر العصور, ويوقنون دائما بأننا عبيد إحساناتهم, ويحمدون الله على الفتات الذي يتركه خلفهم أسود السلطة, بل ويتبعون مبدأ اللص في فيلم زكي شان حين طلب من أحمد حلمي صفعه مرارا وتكرارا قائلا \”اضرب كمان عايز اتوب\”, وقد اتضح هذا بقوة في هتاف الشيوعيين المصريين باسم عبدالناصر في المعتقل, أثناء التعذيب, واقتناعهم الراسخ والقوي بعدم معرفته بما يجري لهم على يد السلطة الحاكمة, وهو ما ذكره صنع الله ابراهيم في روايته \”يوميات الواحات\”، حيث تحدث عن اعتقالات الشيوعيين وتعذيبهم, وخص بالذكر \”شهدي عطية\”, مناضل شيوعي وصحفي لامع, اعتُقل في يناير 1959 مع مئات من الشيوعيين، لكنه ظل يدافع عن الإصلاحات الداخلية التي أنجزها النظام الناصري ومواقفه غير المنحازة في السياسة الدولية، وأكد خلال محاكمته في مارس 1960 أن على كل وطني مصري حقيقي أن يساند النظام الناصري ويؤيده بالرغم مما تعرض له من سحل و ضرب وتعذيب, ذلك التعذيب الذي أودى بحياته لاحقا!

(4)

يقولون إن الكاريزما هي ما صنعت من عبد الناصر بالونة هيليوم كبيرة، وجعلته يحتل قلوب الكثير من المصريين, وإن الكاريزما هي ما جعلت المصريين يتغاضون عن الانحدار العلمي والاقتصادي، وعن بواعث النكسة وآثارها.. الكاريزما وحدها هي ما جعلت المصريين يعشقون عبد الناصر ويضعونه في منزلة القائد الأوحد والزعيم, لكني لا اؤمن أن هذا صحيح, ربما لأنني أرى أن التاريخ يعيد نفسه الآن في 2015.. نعم، يعشق المصريون الرئيس.. الزعيم الأوحد والقائد الرشيد, أو كما يحب أن يسميه العامة \”الدكر\”.. إنها متلازمة ستوكهولم المتمكنة من نفوس المصريين والمتغلغلة في تكوينهم النفسي والممتدة حتى جيلنا هذا!

يعشق المصريون القائد \”الدكر\”، القادر على سحق أعدائه.. القادر على القتل وارتكاب الأفعال العنيفة، حتى لو تم ذلك خارج إطار القانون أو حتى العُرف! سيجد العامة والمؤرخون سبيلا لتخليد فعلته على سبيل الحدث التاريخي العظيم.. \”مذبحة المماليك\”، هي التجلّي الأكبر لكل هذا.. المهم هنا هو أن يكون القائد جبارا بما يكفي، عنيفا بما يكفي، مخيفا بما يكفي لإثارة فزعنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top