آلاء الكسباني تكتب: نوال السعداوي وطريق "أريد نفسي"

الثورة هى لحظة ملحمية طوباوية نُبعث بها وفيها من بين الأموات؛ من بين من اعتادوا السكوت، تُوقظ بداخلنا مشاعر لم نكن لندركها لولاها، نؤمن بأنفسنا وبها حين نشترك فيها، نتعاطف معها، نتصور أن حياتنا سوف تكون أفضل بعد انتصارها، بعد سقوط ما ومن نثور عليه، فالثورة لا تقوم على الأشخاص فحسب، بل على المعتقدات والموروثات البالية، فيُزهق الباطل، وتلوح الآمال –التى كنا نراها يوما بعيدة المنال- فى الأفق، فنؤمن بالقريب البعيد، ونؤمن بأنه فى إمكاننا أن ننجز ونبني ونحقق ونجدد.

الثورة شهر حرام، هالة تآلف يتناغم في داخلها غرباء الأمس، من طوائف أو أنواع أو أجناس، تتبخر حساسياتهم التي تفرقهم، يتلاشى الامتعاض الذى ينظرون به لبعضهم البعض كل صباح، ليحل محله الإيمان، بالله، بالوطن، بالحقوق، بالمساواة.

حين أفكر فى ثورة يناير 2011، أعود بالذاكرة خمس سنوات للوراء، فآرانى فى عامى الثالث فى الكلية، ببيت الطالبات بالقاهرة، أدرس لاختبار اليوم التالى وأحاول قدر إمكانى أن أتابع الأخبار، فيقشعر بدنى مع كل خبر عن زيادة الأعداد فى ميدان التحرير، وتلوح أمام عينى صورة خالد سعيد بعد أن تم تعذيبه، لألتقى صديقتى المُقربة سلمى فى صباح اليوم التالى مُمسكة بجريدة لا أذكرها، جُل ما أذكره إنه أختفت يومها من أيدينا المراجع والكتب التى نلتهمها إلتهاما قبل أن ندخل الامتحان، وحلت محلها الجرائد والصُحف، يتوسطها عناوين عريضة بلون أحمر مميز، \”مصر تنتفض\”، وأرى فى الصور المُصاحبة للعناوين أعدادا كبيرة من الشباب والفتيات فى كل محافظات مصر، فتوقف عقلى لحظة متسائلاً: \”فتيات؟! هل خرجت الفتيات للميدان أيضا؟ يا إلهى أيمكنهن هذا؟\”

تفاجئنى سلمى بعد الامتحان برغبتها فى النزول إلى ميدان التحرير، فأخبرها أنى عائدة فى ذات اليوم إلى الاسكندرية، نحتضن بعضنا بقوة، وكل منا تمضى فى سبيلها.

كنت فى ذلك الوقت فتاة غرة حديثة السن، أدرس فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، لم أدلف إلى القاهرة من بيئة مُغلقة، ومع ذلك اصطدمت بتلك المدينة، فقد كنت مُتشبعة بعادات وتقاليد وموروثات هذا المجتمع البالى، كنت فتاة شرقية ذكورية وتافهة، لم اقرأ فى حياتى سوى روايات عبير وأحلام الرومانسية البلهاء، أحلم بالفستان الأبيض ليل نهار، امتعض حين أرى فتاة مُدخنة أو بدون حجاب، لا أعرف معنى الحياة، ولا أرى ما يخبئه لى الله فى أقدارى من طموح.

حتى وصلت إلى عامى الثانى والثالث بالكلية، بعد أن تخصصت فى دراسة العلوم السياسية، لأدرس مادة الأيديولوجيات، واتعرف على الأيديولوجيا النسوية، وقد كانت هذه بمثابة نقطة التحول فى حياتى.

انجذبت لهذه الأيديولوجيا عن دونها، أخذت أقرأها بشغف، ألتهم كتبها التهاما، أركز جيدا فى المحاضرة ولا أجدها مملة على الإطلاق، كلما ظننت أننى ألممت بها، أجدها تتشعب فى الكتب الدراسية، لتشتمل اتجاهات كثيرة، النسوية الماركسية، النسوية الإسلامية، النسوية الليبرالية، ولا أفهم شيئا، لكنى أحاول، أحاول لأنها جعلتنى أفكر فى حقوقى كإنسانة، فى موروثاتى البالية التى أحملها على كتفى كالحمار يحمل أسفارا، فأقرر القراءة خارج المحتوى الدراسى، لتقع يدى على أول كتاب نسوى أقرأه، \”المرأة والصراع النفسى\”، للدكتورة نوال السعداوى.

تتحدث د. نوال فى هذا الكتاب عن الأمراض النفسية التى تصيب المرأة نتيجة الصراع النفسى الذى تعيشه من خلال حربها الضارية مع هذا المجتمع، من أهمها، العصاب.

العصاب مرض نفسى خطير، ليس لأن أعراضه تؤدى للمس أو الجنون أو حتى الوفاة، لكن لأنها أعراض عادية غير ملحوظة، بل لا تتطلب حتى الذهاب إلى دكتور نفسى، لأنك إن أصبت به لن تدركه أصلا، لن يعطلك عن نشاطاتك اليومية أو روتين حياتك، هو سيأكلك على مهل دون دراية منك، وأشرس أعدائنا هم من يقضون علينا فى غفلة منا ببطء، ذلك الصداع النصفى الدائم، النهم الزائد للأكل أو الجنس، الإعراض عنهما، وغيرها من الأعراض التى نعتبرها نتيجة للإجهاد أو الإرهاق، تعد عصاب.

يصيب العصاب المرأة نتيجة الاحباط المستمر فى طموحها الجسدى والنفسى والعقلى، لأنها تعيش وفق المفهوم الأبوى الخالد –الذى بدأ يتغير بعض الشىء فى يومنا هذا-، وهو إن المرأة خُلقت حيية مُطيعة تعمل فى بيتها لزوجها ولأولادها، بدون أن ترى نفسها فى مرآتها أبدا.

تسرد د. نوال محاولاتها لإحصاء عدد النساء المصابات بالعصاب فى مصر –واللاتى أنا على يقين بزيادتهن الآن- وتتطرق لمفاهيمه العلمية، وتناقش نتائج هذه البحوث والإحصائيات، حتى يأتى الجزء الثالث من الكتاب، نماذج لعينة عشوائية من مريضات العصاب، فى هذا الجزء تحديدا آمنت بالحاجة للثورة على ما نعيشه، بكيت بكاءً هستيرياً، شعرت بعده بالتطهر، تطهرت مما علمونى، من المعتقدات البالية التى جعلونى أصدقها، رأيت العالم من زواية أخرى لأول مرة فى حياتى، آمنت أن لى حقوقا، وأن الله لم يخلقنى لأكون \”كمالة\”، وأن الحقوق تُنتزع، نفضت عنى ما أصابنى من ذهول حين رأيت الفتيات فى ميدان التحرير، يهتفن مثلهن مثل الرجال، تيقنت أن مشهد الطبيبات فى المستشفيات الميدانية وهن يحاولن إنقاذ المصابين، ليس بغريب أو غير عادى، آمنت بأن التحرير لا يحدث فيه \”علاقات جنسية كاملة\” مثلما يدعون، وأنه يمكن للمرأة أن تجتمع برجل، بل وتبيت معه فى خيمة واحدة فى ميدان واحد، لا يوجد عليها رقيب سوى الله ونفسها، بدون أن يحدث شىء.. تلاشى \”بعبع\” العيب من نفسى، آمنت بأن الميدان مكاننا، وأننا قادرات على فعل أى شىء، أخذت عهدا على نفسى أن أظل أفكر وأعمل عقلى ما حييت، وأيقنت أنه سيتم محاربتى فى أفكارى من أقرب الناس لى، سأصبح وحيدة، لكنى فى الوقت ذاته سأصبح حرة!

عكفت بعد ذلك على كتب د. نوال ورواياتها، باعتبارها أهم أعلام النسوية فى مصر، وبالطبع مهما حاولت أن أُجمع كل انتاجها الأدبى فى مقالى هذا، لن يكفى، لكنى سأحاول أن أحكى لكم عنها من خلال وصف قصير لبعض أحب كتبها إلى قلبى.

\”أدب أم قلة أدب\”، مجموعة قصصية رائعة، أقرب قصصها لروحى هى القصة الأولى، والتى تعنونت المجموعة كلها بعنوانها، تتحدث فيها امرأة عن إحدى صديقاتها، فتاة صغيرة أنضج من سنها، تكتب الشعر، فتفصلها مديرة المدرسة، تفكر فى ماهية المرأة وأسلوب حياتها الذى يفرضه عليها هذا المجتمع، تسأل أسئلة أكبر من عمرها، فيوبخها الكبار، كبرت وسافرت بعيدا عن المدينة الموحشة التى لا يُسمح فيها بالتفكير فى المسلمات، وتمضى السنون ليتقابلا صدفة، فإذا بالصديقة امرأة شابة ممشوقة القوام وسعيدة، أما الراوية فهى عجوز أصابها التهاب المفاصل وخط المشيب شعرها، فتسألها ما سر شبابك وسعادتك، لتجيبها صديقتها بأن الطريق لهذا بسيط، هو صعود من القاع، يبدأ بكلمتين: \”أريد نفسى\”.

تتوالى إبداعات د. نوال الأدبية والمسرحية فى مسرحية الزرقاء وسقوط الإمام، والتى تُرجِمت إلى 14 لغة مختلفة، ورواية الأغنية الدائرية، والغائب وآخرها زينة التى صدرت عام 2009، كما تفوقت على نفسها فى كثير من الكتب التى تبحث علاقة الرجل بالمرأة والمرأة بالمجتمع مثل المرأة والجنس، الرجل والجنس، مذكرات كبيبة، المرأة والدين والأخلاق التى اشتركت فى تأليفه د. هبة رؤوف، أجمل من تتلمذت على يديهم بالكلية، وغيرها الكثير، انتهاءً بـ\”الإله يقدم استقالته\” الذى صدر عام 2006 وتم منعه من النشر فى مصر.

المُتفحص لحياة د. نوال يجد أنها حياة زاخرة بالإنجازات بحق، ورغم ما عانته فى مصر إلا أنها صمدت وظلت محتفظة بقناعاتها وبإيمانها بحقوقها وحقوق بنات جنسها، فقد تعرضت للسجن فى 1981، كما تعرضت للنفى بسبب آرائها وأفكارها، بالطبع كان التهديد بالقتل بمثابة طقس يومى تعيشه، هذا فضلا عن اتهامها بالمرأة الداعرة، من أغلب مجتمعنا الذكورى الأبوى، بل من قِبلى أنا شخصيا قبل أن يتغير تفكيرى وقبل أن أقرأ لها.

مأخذى الوحيد على د. نوال، أننى شعرت فى كثير من أعمالها الروائية أنها مُتعصبة للمرأة بعض الشىء، حيث تحمل بعض كلماتها فى طياتها دعوة لفوقية المرأة على الرجل، وهذا بالطبع يتنافى مع النسوية، لأن النسوية ما هى إلا المساواة بين الرجل والمراة فى الحقوق والواجبات، دون فوقية أحدهما على الآخر، والنظر للمرأة على أنها إنسان، وإخراجها من التابوه الجندرى الأحمق الذى يضعها فيه مجتمعها الذكورى، لكن هذا بالطبع لا يقلل من إبداعاتها الفنية والأدبية وإسهاماتها فى مجالات حقوق المرأة العربية وليست المصرية فحسب، وإسهاماتها فى حياتى أنا شخصيا، فلولاها لما خطوت الطريق الصعب الذى يبدأ بكلمتين: \”أريد نفسى\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top