آلاء الكسباني تكتب: مُحن الشيروفوبيا

(1)

رغم حبى الشديد لفرقة مسار إجبارى وعشقى لأغانيهم، إلا إننى حين سمعت أغنيتهم الأخيرة \”شيروفوبيا\” اجتاحتنى مشاعر كثيرة متناقضة، لأول مرة لا أحب أغنية لهم، رغم استساغتى للألحان ولصوت هانى الدقاق المميز وإعجابى بجمال سلمى أبو ضيف، الموديل الموجودة فى كليب الأغنية، إلا أننى شعرت بغصة تعتمل فى حلقى، فقد عادت بى الأغنية للوراء، إلى فترة فى حياتى ليست ببعيدة، خرجت منها حطام وبقايا إنسانة، خصوصا بسبب ولعى بانقاذ الحالات الميئوس منها، احتجت –بعد أن عشتها- إلى كمية كبيرة من السلام النفسى، ووقت كبير من الانعزال عن البشر، فقد ارتبطت برجلٍ تنطبق عليه مواصفات الأغنية، أو \”الشيروفوبيا\”.

(2)

تحدث الطبيب النفسى أحمد أبو الوفا عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعى \”فيسبوك\” عن عدم ارتباط مصطلح \”الشيروفوبيا\” -أو الخوف المرضى من السعادة والسعى الدائم خلف الاكتئاب كما تعنى- بالحالة التى تتحدث عنها كلمات الأغنية، بل إن ما توصفه الأغنية هو اضطراب فى شخصية رجل لا يتحمل المسئولية، ملول بطبعه، لا يهتم لمشاعر الفتاة التى يرتبط بها، هدفه الأساسى هو التملص من العلاقة بغض النظر عن مدى جديتها فى نظر الطرف الآخر، مع محاولة إضفاء مسحة من العمق وتعليق شماعة أخطائه على مسميات كبيرة مُفجعة من الأمراض النفسية، حتى يستطيع الفرار سريعا باحثا عن ضحية جديدة يُعلقها به.

كما أضاف إن عيادته النفسية تمتلئ بضحايا هذه الشخصيات، شخصيات مبهرة فى البداية، يستحوذون على انتباهك بكل ما يمتلكون من وسائل، يحاولون لفت نظرك ما استطاعوا لذلك سبيلاً، حتى يحصلون عليك، فيبدأون فى التغير وافتعال المشاكل واللجوء للصمت، ويصيبهم تجاهك فتور لم تعهده منهم قبلا، وحين تبدأ فى التساؤل وتعرب عن قلقك، يجيبونك بإجابات عميقة مُعدة مُسبقاً عن التجارب العدمية السرمدية التى تمتلأ بها حياتهم، وعن كونهم غير جاهزين لخوض علاقات من أى نوع.

بغض النظر عن التفسير الطبى الحقيقى لمصطلح الشيروفوبيا، وتلافيا للتعميم، لأنه بالطبع يوجد مثل هذه الحالات تعيش بيننا، مع عدم وجود أى تقليل أو تسفيه من مشاعر الآخرين، وتيقنى الشديد بأن الفن عامة و\”المزيكا\” –كما أحب ان أسميها- بشكل خاص ليست من وظائفه تقديم أى حلول أو تناول أى قضايا معينة، وإنه كلما كان نابعا من تجربة شخصية كان بالتأكيد أصدق، إلا أننى نظرت لهذه الاغنية كحالة يعتنقها الكثير من الشباب –رجالا وفتيات- بالأخص الرجال، وقررت تجريدها من كونها محض أغنية يمكننى ألا أسمعها إن لم تعجبنى.

(3)

جعلتنى الأغنية أفكر فى انتشار مسميات مثل \”الخوف من الكوميتمنت\” أو ما يعنى عدم القدرة على الالتزام و\”الشيروفوبيا\” و\”الفريند زون\” وغيرها مما يعد عائق أمام استكمال العلاقات بشكل سوى بطريقة غير واقعية بين أغلب الشباب.

جعلت هذه المسميات من المتلاعبين بالقلوب أبطالا وضحايا، وجردت المشاعر والعلاقات من هدفها الأساسى، ومطلبها الأصيل، ألا وهو تحقيق الود والرحمة والاحتواء والاستقرار والأمان، حولتهم إلى مجرد مسوخ، وعززت فيهم عدم تحملهم لتبعات أخطائهم، فأصبحوا يردون كل ما يفعلهونه بالآخرين إلى عدم قدرتهم على الاستمرار نظرا لأمراضهم النفسية الكثيرة الواهية، التي أصابتهم بالبلادة وعدم الاهتمام بالجروح التى يصيبون بها قلوب الآخرين.

جعلت من العمق والاكتئاب والرغبة فى الوحدة \”موضة\” يتبعها أبناء جيلى، أعطتهم العذر الكافى للتملص من واجباتهم ومسئولياتهم تجاه شركائهم فى العلاقة، وتعليق الآخرين بأشياء ستنتهى عاجلا أم آجلا من أجل الوصول لمتعة لحظية وقتية، منحتهم الحق فى استغلال الآخرين واستهلاكهم، وتحوليهم إلى أشباه أحياء بدورهم، تماما كالحالة التى أصابت الفتاة فى كليب الأعنية.

تخرج لنا هذه المصطلحات علاقات مشوهة، بل وتؤكد على الانبهار بمثل هذه العلاقات، فنجد التفسيرات الفذة والتحليلات المدهشة تجتاح موقع الفيسبوك فى محاولة مستميتة لتطبيع علاقة الممثلة الشهيرة كيت وينسلت بصديقها الحميم ليوناردو دى كابريو بأنها علاقة حب مُشوهة مُتخفية فى ثوب الصداقة، فقط لتبرير أن انتشار مثل هذه العلاقات المُستهلكة عادى وطبيعى، بل وصحى، مع إنها فى الأساس علاقات مرضيّة مؤذية.

تخرج علينا أناس على قدر كبير من الأنانية والطفولة، ينظرون لقدرتهم على جرح الآخرين بدم بارد على أنه شىء خارج عن إرادتهم، يمتثلون لجملة \”محتاجِك بعيدة، بس محتاجلك معايا\”.

جعلت من أعذار \”عايزك ليا بس مش عايزك تعانى\” و\”إنتى تستاهلى حد أحسن، أنا مشوه مش هاقدر أسعدك\”.. أسطوانات محفوظة يستخدمها مُتلاعبى العلاقات  للهروب.

ومع إيمانى بوجود حالات تتمثل فيها هذه المسميات والأمراض النفسية الخطيرة، إلا أننى أيضا أؤمن بوجود الكثير من الإدعاء غير الطبيعى! نعم، إن كلنا مرضى بدرجة أو بأخرى، وإن الاعتراف بهذا هو أول خطوات العلاج، لكن أن نُخرج ما فى نفوسنا من أمراض ونحمل الآخرين منا ما لا طاقة لهم به هو قمة اللامسئولية والظلم.

(4)

كان يوبخنى كل 48 ساعة عن أشياء تبدو طبيعية للغاية فى نظرى، ولإيمانى بإن البشر يختلفون فيما يحبون وما يكرهون وما لا يطيقون، لم أكن أجادل، وأتراجع كثيرا عن أشياء أحبها لأرضيه، يهددنى دائما بالبعد والهروب، دائما مكتئب ويرغب فى الانعزال، ولا يرى فائدة للحياة رغم وجودى معه فيها، ثم يهرب، ولا أستطيع إيجاده، ليعود إلىّ مجددا بعد أن ينهكه الملل من الوحدة معتذرا، حالفا بأغلظ الأيمان بأنه لن يفعلها مجدداً، ليعيدها تارة تلو الأخرى.

يوما بعد يوم، انطفأ نورى وخبت ضحكتى العالية التى لطالما عُرفت بها، صرت غير قادرة على الكتابة أو المذاكرة أو العمل، قلت درجاتى ونشاطاتى، ولم أعد أمارس هواياتى، أصبح البكاء طقسا يوميا أمارسه، وكلما وجدته يقترب ليداوى جروحى، كلما زادها تقرحا، حتى قررت أن أنقذ نفسى وأن أكف عن إنقاذه، فقد كانت حياتى معه رمالا مُتحركة تجذبنى للأسفل.

مدمن هو للعلاقات المشوهة، مؤمن بعدمية الحياة وعدم قدرته على الالتزام، قادر على أن يحول أجمل اللحظات بيننا إلى أتعسها، رجل ذو قدرة فظيعة على الافتعال الدائم للمشاكل، يكفكف دموعى بـ\”أنا بعتذر لك\”، ولا يعلم أن ما يفعله لا يمكن محوه بأى أعذار! لا يلبث أن يُقصينى حتى يقربنى من جديد، لم أخذله قط، وخذلنى فى كل الأوقات.

خرجت من علاقتى به غير عابئة بشىء، لا أخشى الفقد، قادرة عن الاستغناء، مؤمنة بأنى مجرد مرحلة، مُقررة ألا أعشق ثانيةً، واهمة نفسى بأنها الطريقة الوحيدة للتعافى.

أحكى لكم هذه التجربة حتى لا تقعوا فى هذه الدوامة التى لا تنتهى أبداً، لا تصدقوا الأعذار المعسولة، سارعوا بإنقاذ أنفسكم من هذ العلاقات المشوهة، تفادوا المُحن الشيروفوبى!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top