طل علينا عزت أبو عوف في رمضان هذا العام في إعلان تبرعات لمستشفى الكبد, حين رأيته للمرة الأولى تركت مكاني واقتربت من التلفزيون ما استطعت إلى ذلك سبيلا, دققت النظر ونظفت عدسات نظارتي الطبية من الغبار, ولم أصدق أن هذا هو عزت أبو عوف الذي أعرفه, ذو الصوت القوي والضحكة الرائعة الهادئة الواثقة!
ارتعبت كثيرا, خصوصا وأنني أحب فنه للغاية, نقبت خلف الموضوع كالعادة بسبب فضولي الذي لا ينتهي, حتى علمت السبب.
ولد عزت أبو عوف في القاهرة عام 1948, ودرس الطب, لكنه ترك مهنته للتفرُغ للموسيقى والعزف على الأورج, حيث كان عضوا في فرقة
Les Petits Chats، كما انضم لفرقة \”بلاك كوتس\”, ثم أسس مع شقيقاته الأربع فرقة الـ \”فور إم\” التي احدثت دويا هائلا على المستوى العربي وقتها, لكنها لم تستمر بسبب الفرقة الطبيعية للحياة واختلاف الظروف الشخصية لكل عضو في الفرقة, ومن أشهر اغانيهم \”الولة ده, طل الحليوة, خلي الستارة\”
مع حلول التسعينيات اتجه أبو عوف للتمثيل, وكانت بدايته مع المخرج خيري بشارة من خلال فيلم \”آيس كريم في جليم, واستمر في مجال التمثيل إلى وقتنا هذا.
ومن أهم وأجمل أعماله التي أمتعنا بها:
في السينما, إشارة مرور، بخيت وعديلة، ليلة ساخنة، أسرار البنات، طيور الظلام، اضحك الصورة تطلع حلوة، بنات وسط البلد, أما عن الدراما التلفزيونية فكان أشهر أدواره في مسلسلات, زيزينيا، هوانم جاردن سيتي، أوبرا عايدة، العمة نور، عباس الأبيض في اليوم الأسود.
يحكي عزت أبو عوف قصته مع معشوقته فاطمة الزهراء, أو فاطيما كما يحب أن يناديها, إنه كان يقضي صيفه في الإسكندرية, وأثناء سيره ذات يوم في أحد الشوارع الرئيسية القريبة من البحر, رآها تسير حافية في الشارع بجرأة ودونما خجل, ولم يشعر بنفسه سوى وهو يقترب منها ويعرض عليها الزواج وسط دهشتها الشديدة, لكنها جرت منه خوفا وذهبت جرأتها أدراج الرياح, لكنه تبعها وعرف منزلها وتقدم لخطبتها, ووافقت مؤكدة أن قلبها قد دق له من النظرة الأولى!
بعد أن رأيت أبو عوف في إعلان التبرعات هزيلا حزينا يبدو عليه الوهن, وقرأت بعدها خبر وفاة وجنازة فاطيما, وعلمت برد فعله, لم استغرب كثيرا, فقد أقام لوحة ضوئية كبيرة على إحدى الواجهات السكينة مكتوبا عليها \”فاطيما للأبد\”, حاول أن يظل متماسكا، لكنه لم يستطع كبح جماح حزنه وبكى بكاء هستيريا.
وفي أول حديث له عن رفيقة دربه فاطيما, قال إنها كانت نصفه الآخر, وإنها ظلت بجانبه دون أن تشكو أبدا.
قال: \”تخيل أننا في مباراة كرة قدم ومهزومين بأهداف كثيرة، والحكم أعلن انتهاء الوقت الأصلي للمباراة وليس أمامنا سوى أربع دقائق محتسبة كوقت بديل من الضائع، لابد أن نلعب حتى اللحظة الأخيرة، لكننا على يقين من استحالة إدراك الفوز أو حتى التعادل، هكذا هي حياتي أكل وأشرب وأعمل وأذهب إلى النادي، لكني في الوقت الضائع\”
أصابت عزت وعكة صحية قوية بعد وفاة حبيبة عمره, هزُل على إثرها, بهتت ضحكته, وخفت صوته, وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا, لم أصدق ما رأيته من تأثير قوي وواضح عليه للوهلة الأولى, تساءلت كثيرا, أيوجد حتى يومنا هذا حب صادق صاف إلى هذا الحد؟ حب يجعلك تذوب بكل جوانحك في كيان شخص آخر لدرجة أن تفقد نفسك؟! حب لا تهدأ جذوته المُشتعلة مع الأيام, ولا ينتهي كما بدأ, بالصدفة! حب يُشبه في شوقه إلى حد كبير, شوق الدراويش.
يرتدي عزت خاتم حبيبته في سلسلة مُعلقة بصدره دائما, وحين اشتدت عليه وعكته وكان لابد له من إجراء عملية جراحية، لم يكن خائفا من الموت, على العكس, ابتسم له من بعيد طالبا منه أن يدنيه من حبيبته, لكن القدر لا يرغب في أن يحرمنا فنه و ضحكته, لا يرغب في أن يحرم أحبائه منه, فخرج لنا سليماً مُعافي بفضل الله.
لايزال أبو عوف قادرا على الابتسام رغم مرارة ألم الفراق, رغم الشوق الذي بعتصر قلبه, والحنين الذي يأكل جسده أكلا, لاتزال عيناه تلمعان حين يتحدث عن فاطيما بشغف العشاق, لايزال قادرا على أن يُحب, وأن يمنح ما تبقى من حبه لأهله ولجمهوره.
أعطتني قصة عزت وفاطيما أملا في الغد, أمل في أن أُحب أحدهم حبا يملك علي وجداني, رغم كل تجارب الحب الفاشلة التي مررت بها، إلا أن الله أرسل لي حبهما علامة نادرة لكي يطمئن قلبى, ليخبرني بأن معادلات الحب غير منطقية, وأننا لن نفهم قط كُنهُه, لكنه موجود ويمكن أن يدوم لعقود!
جعلتني قصة عزت أبو عوف وفاطيما رحمها الله أؤمن بقول ابن عربي \”الشوق بتحصيل الوصال يزول, والاشتياق مع الوصال يكون, إن التخيل للفراق يديمه عند اللقاء, فربة مغبون من قال هون صعبة, قلنا له ما كل صعب في الوجود يهون, هو صفات العشق لا من غيره, والعشق داء في القلوب دفين!\”
نعم, الفراق أذى, وليس كل أذى في الوجود يهون.
لكنك لم تفارقينا يا فاطيما, فقد خُلدت ذكراك أبد الدهر بحب أبو عوف لك, ستظلين حية في قلبه للأبد.
فليرحم الله فاطيما, وليطيل لنا في عمرك يا أبا عوف, وليجمعك بها في حياة آخرى دائمة غير فانية.