آلاء الكسباني تكتب: من ضهر راجل.. أو لنقل من ضهر النظام

من جديد، يبرهن لنا محمد أمين راضى على موهبته، فى الشاشة الفضية الكبيرة والصغيرة على حد سواء.

بعد أن شاهدت الفيلم، قررت أن أكتب عنه لا محالة، قررت أيضا ألا أحرق فى مقالى هذا مشهدا واحدا من أحداثه، لأنه يستحق أن تشاهدوه وأنتم على غير دراية بمحتواه، حتى تصلوا إلى الحالة التى وصلت إليها، والتى جعلتنى أخرج من دار العرض بعينين دامعتين وجفنين متقرحين وعشرات المناديل تملأ جيب معطفى من أثر البكاء.

استطاع راضى أن يجعلنى التحم مع الشخصيات إلى درجة أننى بكيتهم واحدا تلو الآخر، استطاع أن يوظف قلمه باحترافية عالية جعلتنى اعيش أحداث الفيلم وكأننى بداخله، وكأننى جزء منه.

من أكثر ما خلب لُبى فى هذا العمل كانت كادرات كريم السبكى، لم اقتنع به قط كمخرج كما اقتنعت به فى هذا الفيلم، لم يسبق لى ان استشففت علاقته الغرامية هذه مع الكاميرا إلا هنا، ولا يسعنى إلا أن اقول إن السيناريو الناجح يُخرج الطاقات المُختزنة فى الموهوبين، فلا يتفرّدوا ولا ينفرِدوا إلا من خلاله، وهذا ما حدث مع كريم فى رأيى.

أما عن الموسيقى التصويرية، فقد حقق لى عمرو إسماعيل المستحيل، حينما قرر أن تكون الخلفية الموسيقية لمشهد مُشادة حادة بين آسر ياسين وحبيبته، قائمة على البيانو فحسب! فضلا عن الخلفية الموسيقية لمشاهد الأكشن التى كانت تُشعل بداخلى الحماسة، وتنقل لى الإحساس الكامن وراءها، لكن يؤخذ عليه فقط أنه لم يدمج موسيقى المشهد الواحد بطريقة سلسة، حيث كان ينتقل بين المقطوعات فى المشهد الواحد –أحياناً- بطريقة تجعلك تلاحظ الفرق الجلى بينهم.

وعن التمثيل، فقد نجح أبطال العمل كلهم فيه، وكأنهم قد خُلِقوا لهذه الأدوار.

اذا ما رأينا صبرى فواز فى فيلم \”الليلة الكبيرة\”، سنجد رجلا \”بتاع ربنا\” يجرى ويتقافز بين أهل المولد، ينطق لسانه بالحق دون أن يعى هو ما ينطقه، وبالرغم من أن هذا الفيلم يُعد فى نظرى من أسوأ ما أخرجته السينما المصرية، فهو محاولة رديئة للغاية، رغم البروباجندا الضخمة التى صاحبته، وكأنما تمخض الفيل فولد فأراً، إلا أن دور صبرى فواز كان ينم عن مهارة شديدة وموهبة فذة، لأجده قد تحول 180 درجة فى \”من ضهر راجل\”، ليعود إلينا فى دور الشر، وليثبت لنا أنه قادر على لعب كل الأدوار بكل سهولة، وكأنه حرباء صغيرة تُغير لونها كيفما أرادت!

وبالطبع، حين نتحدث عن الموهبة، يجب أن نتحدث عن وليد فواز، \”النتات بيه\” أو \”زينهم شيخ الغفر\”، ليطل علينا هنا فى \”حِنّش\” البلطجى، الذى أضحكنى كثيرا بتلقائيته وبساطته.

ولأننى –مثلكم- على دراية بقدرات آسر ياسين ومحمود حميدة وياسمين الرئيس ومحمد لطفى، فلن اسهب فى الحديث عنهم، لأنكم ستستشفون بأنفسكم أنه لم يكن لينجح آخرون مكانهم فى أداء أدوارهم.

من فاجئنى بحق، هو شريف رمزى.. لم اعتد رؤية شريف رمزى فى أدوار تبرز موهبته وقدراته الفنية، دائما ما يخرج علينا فى أدوار أحسبها تتشابه بعض الشئ، ليمزق فى هذا العمل عباءته الفنية تماماً، ويمثل لنا دورا شريرا!

نجح شريف رمزى فى أن يجسد لى الشر كما يجب أن يكون، واستطاع بحوالى 7 أو 8 جمل حوارية فى السيناريو –عددتها جملة جملة- بأكمله أن يجسد دورا يُعد من ركائز العمل وأساسياته.

ابهرنى شريف كثيرا، ابهرنى صمته الدائم وخجله الهادئ، ومظهره البسيط الذى يُخفى وراءه كما لا بأس به من الكراهية والحقد جعلاه يتحول لوحش تنخدع فى وداعته، ابهرتنى نظراته وحركاته وابتسامته التى تحمل الشر فى طياتها.

كعادة محمد أمين راضى، يدس لنا دائما رسالة فحواها أن الدين يمكن أن يصبح سلاحا ذا حدين، فأظهر لنا \”مولانا\” جديدا من خلال دور شريف رمزى، كما يضع لنا خطوات صغيرة نسير عليها شيئا فشيئا لنصل إلى أن النظام له أذرع خفية، لولاها لما استطاع ممارسة سلطاته، وأن الكبار يحتاجون إلى معاونين لهم فى فسادهم، ينفذون لهم مهماتهم القذرة بدون أن تتلوث أيديهم بقطرة دماء واحدة، ليتمخض المجتمع عن فئة البلطجية، فالبلطجة صناعة النظام، وما يراه المجتمع من أثرها، للنظام دور فيه!

لكن ما يُؤخذ عليه، أن الفيلم يستمر قرابة الساعتين ونصف، هذا بدون تتر البداية والنهاية وبدون الاستراحة أيضاً، حيث ألغت دار العرض التى حضرت بها الاستراحة نظرا لطول الفيلم، ويجوز أن يكون السبب هو أن هذا أول فيلم لراضى، بعد أن اعتاد أن يكتب للشاشة الصغيرة، وأظن أنه خطأ صغير مُتدارك، نظرا لأن أحداث الفيلم متناسقة غير مملة أو \”محشورة\”.

هذا الفيلم ليس عن قصة كفاح أو صعود ملاكم فقير، هذا الفيلم يحكى لنا عن استشراء الفساد بدرجة مخيفة للغاية، يحكى لنا عن تهميش العشوائيات، عن مساهمة النظام فى صنع المجرمين، عن دولة لا تستطيع فيها الشرطة المرور من منطقة ما إلا بأخذ الإذن من كبيرها، هذا الفيلم يحكى لنا عالم البلطجة بنكهة القرن الحادى والعشرين، يحكى لنا عن بلطجى الحارة الذى اختلفت صورته كثيرا عما كنا نقرأه فى روايات نجيب محفوظ، هذا الفيلم يُعرى لنا أهم أجهزة دولتنا المُوقرة، يضعها أمامنا فى أبشع صورها، يواجهنا بالحقيقة التى نتناساها يومياً، وهى أننا نحيا فى دولة \”مُهزأة\”، لا يستطيع أهم أجهزتها أن يصمد بدون معاونة من البلطجية، وتعتمد عليهم بشكل أساسى فى إدارة أمورها، وهذا ليس بمستحدث أو جديد عليها، فمنذ الاربعاء الأسود 2005 ، حيث مزق بلطجية النظام ملابس الصحفيات أمام النقابة، اتضح لنا بقوة أن النظام اتخذ من هذه الفئة يدا جديدة ليُحكم سيطرته على الدولة، مرورا بأحداث 25 يناير وحتى يومنا هذا، ظلت هذه الظاهرة تزداد وتستفحل لدرجة جعلت أفراد هذا النظام  وأجهزته يتحكمون فى مصير فئات تحتية لا نراها إلا عند اللزوم.

هذا الفيلم اثبت لنا أن البلطجية ليسوا من ضهر \”راجل\”، إنما هم من ضهر النظام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top