(1)
جلست أمامي بهدوء, هدوء شديد, لم أعهده فيها من قبل, حادثتها مرارا، لكن لم تلق لحديثي بالا, وفجأة بدأت تحكي ما حدث.
قالت لي: \”كنت باهزر مع صديق ليا ع الفيسبوك, كنا بنتكلم عن إننا لازم نتقابل ونحتفل بمناسبة ما, هزرنا في إننا نشرب كاسين ونطرقعهم ونقول تشيرز زي الأفلام, وقفلنا على كده.. لقيتلك بعدها حوالي خمس رجالة مختلفين عندي ع الفيسبوك داخلين يكلموني بايحاءات جنسية غير مباشرة, منهم اللي دكتور في الجامعة ومنهم اللي مخرج واللي مهندس, قالولي كلام غريب! اللي يقولي نبقى نشرب سوا, طب بتشربي فين؟ طب أنا عندي شقة في الحتة الفلانية نبقى نروح مع بعض! هو حتى بافتراض إني بشرب بقى وكده.. ابقى مستعدة اعمل أي علاقة مع اي واحد يعني؟ أنا مشمئزة يا آلاء.. حاسة بالقرف\”
اسبلت جفنيها وانسابت دموعها, لم اجد شيئا لاقوله.. خانتني كل كلمات تطييب الخواطر, لم افعل شيئا سوى أن ربتت على كتفها برقة محاولة تصنع الابتسامة.
(2)
كنت انتظر صديق لي بمقهى الكريستال, اعلم جيدا أنه يحب الجلوس على طاولة بجانب نافذة المقهى الخشبية العتيقة ليفتحها على مصرعيها, حيث هواء البحر يشفي الروح العليلة, وحين وجدت الطاولة المطلوبة متاحة، سارعت بالجلوس فيها, اشعلت سيجارة, لم اكترث كثيرا لنظرات المارة التي تستهجنني, ذهبت مع صوت الست في عالم آخر، حتى افقت على نظرة سائق \”مشروع\” يقف بجانب سيارته منتظرا أن تمتليء عن آخرها, ظل ينظر لي بطريقة اشعرتني أنني عارية، مع إنه لم ير مني في النافذة سوى وجهي ويدي التي تحمل السيجارة, غمز إلي بعينيه ان تعالي معي، وأشار إلي بإشارات جنسية خادشة, اشحت بوجهي بعيدا هربا منه وظللت انظر إلى الجهة الأخرى, حتى دلف صديقي إلى المقهى.
(3)
يعلم الجميع دور رسائل فئة \”أخرى\” على الفيسبوك في حياة كل فتاة مصرية, إذا لم تعرف دعني اصحبك في رحلة خفيفة بين رسائلي عزيزي القارئ.
منذ يومين بعث لي أحدهم رسالة سائلا: \” انتي متفتحة؟\”.. لم افهم صيغة السؤال جيدا، فرددت ببساطة: \”بمعنى؟\”، فجاءني الرد: \”ملاحظ من كتاباتك علي الفيسبوك ومقالاتك إنك بنت متفتحة.. عايز امارس الجنس معاكي\”.. مادت بي الأرض، واستشطت غضبا، لدرجة جعلتني اشعر أنني سأنفث النيران من فمي وأذناي كالتنانين.. اكتفيت بعدم الرد، واخترت خاصية \”بلوك\” حتى لا ارى هذا الكائن مجددا.
(4)
ظهرت منذ بضعة أيام صفحة على الفيسبوك تدعي \”ذكوريست\”, تنادي فيها بـ \”حقوق المرأة العفيفة\” من وجهة نظر القائمين عليها, وتُشهر بالنسويات والناشطات، مدعية أن النسوية قائمة على إقامة علاقات جنسية كاملة، والدعوة إلى التحرر, ليس من القهر والعنف والتقاليد الذكورية البالية لا سمح الله, بل من الملابس, فهم يرون أن الفتاة أو المرأة التي تُلقب نفسها بالنسوية ما هي إلا عاهرة ترغب في العري وتعدد العلاقات, وأن أي امرأة يعلو صوتها للمطالبة بحقوقها، تتملكها رغبة مستعرة وتسعى لإطفائها قائلة: هيت لكم، وأن أي رجل ينادي بحقوق المرأة، ما هو إلا \”إريال\”, إما هذا وإما رجل اخطبوطي متعدد العلاقات، يرغب في مصداقة أكبر قدر من الفتيات.
في الواقع.. أنا لا اعلم حقا من هو الأكثر \”أريلة \”, إن تعريف الرجل \”الأريال\” في العامية المصرية، هو الرجل الذي يرى منكرا في أهل بيته، ولا يغيره, ولذا فلنعقد مقارنة بسيطة, فلننظر إلى الرجل الذي يرى اضطهادا يقع على إنسان يعيش معه في نفس المجتمع فيقف معه ويساعده في الحصول على حقوقه, ولنتأمل حال الرجل الذي يرى ظلما واقعا على إنسان ولا يغيره, لا بيده, لا بقوله, ولا حتى بـ -أضعف الايمان- قلبه, بل يقف خلف الظالمين مهللا لهم مباركا جهلهم, ممارسا قهرهم وغبائهم.. بالله عليكم, ايهما يمتلك \”أريال\”؟!
(5)
استوقفتني هذه المواقف كثيرا, ظللت افكر فيها مرارا وتكرارا, وبدأت اجمع أطراف خيط كل موقف وأجذبه مع الخيوط الأخرى، لافهم الصورة كاملة. نعم.. إن الرجل المصري يعتبر المرأة المتحررة عاهرة, لا يقيم وزنا لعقلها، ولا يُعير انفتاح عقلها أو انفراج أسارير أفكارها أي اهتمام, بل جُل ما يهمه هو انفتاح فرجها وانفراج ساقيها!
يعتبر الرجل المصري التغيير رذيلة, وينظر إلى محاربة القهر والظلم على أنه عُهر, مع إنني لا أرى في النداء بأن اسير في الطريق دون أن يتفحصني المارة تفحُص الجوعي لقطعة اللحم أي عُهر, ولا ارى في النداء بأن اتولى مناصب إدارية كبرى وأن أُعين مثل الرجل في الهيئات القضائية والنيابية أي عُهر, ولا ارى في النداء بأن اعمل وافيد المجتمع واحقق ذاتي بدلا من أن اظل انتظر فارس الأحلام الذي سيأتي على حمار أبيض أي عُهر!
أي رذيلة تلك التي يتحدث عنها الرجل المصري حين يرى فتاة تنادي بحقها في أن تعبد الله كما تريد, في أن ترتدي النقاب أو الحجاب أو ببساطة لا ترتديهم؟ أي عُهر في حق الإنسان في أن يختار.. أن يحيا حياته كيفما شاء؟!
إذا رأى أحدهم رجلا يدخن، أشاح بوجهه كأنما لم ير شيئا, أما إذا كانت امرأة، اشمئز منها وتحرش بها.. نعم.. الفعلان متناقضان لكنهما يحدثان في نفس ذات الوقت! مع إن السجائر تضر بالصحة وليس بالسمعة! وإذا رأى أحدهم شبابا يمزحون بصوت عال بشتائم يُندى لها الجبين، لا يحرك ساكنا, لكن إذا سمعها من فتاة، فغر فاه ونصحها برفق أن تكف عن هذا وتتحلى بالحياء, مع إن الحياء ليس حكرا على النساء! فالرسول الكريم كان أكثر الرجال حياءا وعفة في القول والفعل!
اراهم دائما يكيلون بمكيالين, يتهمون النساء المفكرات بالعُهر, فقط لأنهن مفكرات.. يحضرني هنا مشهد أحمد زكي في فيلم \”البيضة والحجر\”، حين كان جالسا أمام جهة تحقيق تتهمه بأنه يحرض الطلبة ضد النظام ويبث السموم في عقولهم, فما قال إلا: \”يا فندم أنا راجل صاحب مبدأ\”، فقال المُحقق: \”اكتب يا ابنى, وقد اعترف أنه صاحب مبدأ\”
إنهم يحاكموننا لأننا أصحاب مبدأ, لأننا نفكر ونعقل, لأننا نريد أن نحيا!
(6)
تكلم محمود عوض في كتابه \”أفكار ضد الرصاص\” عن كتاب قاسم أمين الخاص بتحرير المرأة, وما لاقاه من تشهير وتكفير واتهام بالزندقة و\”الأريلة\”, حتى إن أحدهم استوقفه مرة في الطريق قائلا: \”أنا عايز الست بتاعتك\”، وحين اندهش قاسم أمين وغضب، قال له الرجل: \”ألست تدعو للسفور وخلع الحجاب والعُهر والزندقة؟ ألست تدعو للاختلاط وحرية المرأة في التعلم والعمل والخروج مع الرجل؟ أنا عايز الست بتاعتك, عايز اختلط بيها ومعاها\”.. فما كان من قاسم إلا أن تركه ومضى في طريقه آسفا على حال هذه الامة، الذي لن ينصلح أبدا, ويعلق محمود عوض قائلا: إن هذا المجتمع الذي اتهم قاسم بالدعوة للرذيلة والزندقة, لم يلق بالا إلى أن الاتجار بالرقيق -خصوصا النساء- كان عملا مربحا للغاية في هذه الفترة في المجتمع المصري, ولم ينظر إلى انتشار الدعارة بقوة وبشكل واضح وصريح, ولا إلى المجلات الجنسية التي كانت تتُداول وتُباع على مرأى ومسمع من الجميع بين الشباب في المقاهي, لم يثرر المجتمع من أجل عُهر الإنجليز فيه وإعاثتهم فسادا في عرض أرضه, لكنه انتفض واستشاط غضبا من أجل ما اسماه \”عرضه\”.. المتمثل في حبرة وملحفة على جسد امرأة!
نُشر كتاب محمود عوض عام 1994 مدافعا فيه عن كتاب صدر عام 1899, ونحن الآن في 2015 ولازال الرجل المصري يربط بين التحرر والعُهر, بين التفتح و\”الأريلة\”.. لازال الرجل المصري يرى أن المرأة التي تطالب بحقها جريئة, وأن التي يعلو صوتها عاهرة يجب إسكاتها ومعاشرتها, فهي مقززة ومثيرة في نفس الوقت, إنها الشيزوفرنيا المصرية عزيزي القارئ.
اعزائي الذين يرون أن المرأة نجحت في أن يعلو صوتها، لكن فشلت في أن تكون رجلا, جاهزون للصدمة الكبرى؟ نحن فخورات بأنوثتنا ولا نسعى مطلقا لأن نغير منها.. نحن لسنا معقدات، ولا يهمنا أن نصير رجالا بأي شكل, نحن لسنا عاهرات يرغبن في أن يجامعن أي شخص يقابلهن.. العُهر في عقولكم أنتم وليس فينا, وإن ظللنا في نظركم عاهرات, فيكفينا أننا عفيفات أمام مرايانا.. سنكسر صمتنا, لكن لن نكسر صورتنا في المرآة.
(7)
ختاما, يجب أن نعترف نحن معشر النسويين والنسويات، أنه يتخللنا بعض المدعين الذي ينادون بالتحرر ولا يمارسونه, ذلك الرجل الذي يظل متحررا، إلا حين يخص الموضوع زوجته أو ابنته أو أخته, وتلك المرأة التي تحتكر النسوية وتحصرها في الآراء التافهة التي يتصيدها الآخرون للنيل منا, تماما كما يحدث للفئة الثورية على الصعيد السياسي, وإن كانوا لا يمثلون أساس المشكلة، فهم يمثلون جزء كبيرا منها, هم فقط أحد أسبابها, أما السبب الرئيسي، فهو متغلغل ومُتأصل في نفس الرجل المصري منذ أن كتب قاسم آمين مدافعا عن حق المرأة في الحياة عام 1899, أي منذ 116 عاما, من قرن, وهذا إن دل على شئ، فما يدل إلا على إننا نسير عكس الأمم, نمشي إلى الوراء ونحطم أي طريق يحملنا إلى الأمام, وإن كان هذا هو حال أمة منذ أكثر من قرن, فيجب أن نؤمن تماما ومطلقا بأنه لايزال أمامنا الكثير لنصل إلى أولى مراحل الآدمية والإنسانية!