آلاء الكسباني تكتب: للبجاحة وجوه كثيرة

تجتاحني مجموعة مختلطة من المشاعر وأنا أكتب الآن, غضب, مرارة, وقهر.

كوكتيل عجيب كاف ليجعلني أرى فيما يري النائم أنني مصابة بالفصام في الشخصية, وأن شخصيتي الأخرى ترتكب الجرائم وتقتل أناس ليسوا بأبرياء, من وجهة نظرها, وربما من وجهة نظر عقلي الباطن أيضا.

استيقظت فزعة.. تسيل حبات العرق على وجنتي بغزارة, عاتبت نفسي قائلة: \”خلاص؟ بتحلمي إنك قاتلة يا آلاء؟\”, فوجدت عقلي يجيبني بصوت خالد الصاوي في فيلم \”الفيل الأزرق\”، \”وأنا عملت إيه يعني؟! حررت لك خيالاتك اللي مش عايزة تواجهيها\”.

شعرت بأنني أركض في مكاني, أجري في سباق حول نفسي, متاهة كبيرة لا أستطيع الخروج منها, أرى صروح أحلامي تهوى أمام عيني دون أن يكون في مقدوري فعل أي شئ! ودون أن يدفع من يهدمونها الثمن!

ربما هذا ما جعلني ابكي بكاء هستيريا بعد أن رأيت دموع مريم ملاك الحاصلة على صفر في الثانوية العامة على شاشات التلفزيون.

نعم يا مريم, أنا اشعر بك, برغم اختلاف مراحلنا العمرية والتعليمية, أحس بكل دمعة تسقط من مقلتيك الصغيريتن, أحس إحساس المراراة المعتمل في حلقك, ذلك الإحساس الذي يجعلك تزدردين الطعام ولا تمضغينه, تتنفسين الهواء فيملأ رئتيك عن آخرها ولا يخرج, فتحسين ثقلا في صدرك , وكأنما تنفسين هواء العالم كله في دفعة واحدة.

أعلم ما يختلج قلبك الصغير من لوعة, وأرى مستقبلي بعيونك, ويمتلك قلبي من حين لآخر بصيص أمل صغير يرسله الله إلى قلبي ليطمئني, ليقول لي لا تحزني, فإني معك اسمع و أرى.

كنت بالأمس أؤدي امتحان نهاية العام بالدبلوما في مادة ما, ومن يعرف خط سير الدراسات العليا في بلدنا الحبيب, يعلم انه لابد من أن تحصل على تقدير كبير في الدبلوما لتتأهل للماجستير, ومن ثم الدكتوراة.

من يذاكر ينجح, بالطبع, هذا هو الطبيعي والمنطقي, لكن في مصر, من لا يذاكر لكن لديه واسطة، ينجح أيضا, وبتفوق!

في الفصل الدراسي الأول, كانت درجات هذه المادة سيئة للغاية, وقد اشتكى وفد من الطُلاب للعميد، لكن لم يتغير شيء, ولم يحصل على امتياز سوى رجلا واحدا فحسب لم نره في أي محاضرة قط, ولا نعلم عنه أي شئ, بالرغم من أن الحصول على امتياز يشترط الحضور والمشاركة أثناء المحاضرات, إلا أنه حصل عليها بسلاسة ودون حضور, وسط دهشة كبيرة من الدُفعة, ومني تحديدا.

والأمس, بالرغم من أن الخروج أثناء اللجنة ممنوع منعا باتا, إلا أن هذا الرجل خرج بعد بدء اللجنة بساعة واحدة فقط! انتهيت من الامتحان وخرجت بعد انتهاء الوقت, حيث من المُتاح لنا الخروج بعد انتهاء نصف مدة الامتحان وخرجت لأجده يسير في الكلية برفقة حُراس شخصيين وعدد لا بأس به من موظفي شئون الطلبة! لأعلم فيما بعد من إحدى صديقاتي أنه عاد مجددا إلى اللجنة وأكمل الامتحان إلى نهاية الوقت في هدوء.

لا اعتقد ان أحدكم يحتاج لأن أشرح له من هو هذا الرجل, أو كيف حصل على امتياز, أو ماذا حدث حينما خرج من اللجنة, لأنه من الواضح تماما برغم جهلي بهويته ومنصبه أنه أحد \”الكبار\” في هذا البلد الظالم أهله!

من يعرف تاريخ مريم الحافل بإنجازاتها التعليمية, لا يشك لحظة في أن اوراق امتحاناتها بُدلت مع طالب آخر لا يفقه شكل الألف من كوز الذرة, لكن \”علشان ليه قرايب مهمييييين\” تم تبديل أوراقه مع طالبة متفوقة بمنتهى البساطة! ليخرج لنا مدير المديرية التعليمية بمحافظة مريم صارخا بمنتهى الوقاحة أنها كاذبة, وأن القضاء هو فقط من سيُزهق الباطل, هذا على اعتبار أن قضاءنا الشامخ ذو أحكام براءة الضباط وإعدام الجملة للمعتقلين يُزهق الباطل! لا يا عزيزي إنه يُزهق الأرواح فحسب!

حين حكيت لأحد أصدقائي ما حدث بلجنتي بالأمس, عاتبني لأنه أحس الذهول والدهشة في نبرة صوتي, قال إنني ساذجة للغاية, لأنني بلغت من العمر ما يكفي لأعرف أن مصر بلد \”الكوسة\” والواسطة والمحسوبية, وأنه لن يلتحق بالماجستير سوى من يريدون هم إلحاقه به, سألني باستخفاف: \”أنتي فعلا أول مرة تُدركي دلوقتي إن مصر بلد ظالمة؟\”, فررددت لا, لكنها المرة الأولى التي تواجهني فيها الظروف عيانا بيانا بأن مصر بلد \”بجحة\”, تمارس القهر والظلم أمام الكل, المظلوم وغير المظلوم, حتى يعلم الجميع أننا جميعا دون من هم فوق القانون وأن من له ظهر لا يُضرب في بطنه.

تساءلت كثيرا ما جدوى ما أفعله, إذا كنت لن أحصد جراء تعبي أي شئ هنا, لماذا أُصر على الركض خلف السراب؟! لماذا أفعل بنفسي هذا؟! لماذا يُغالبني طموحي ويغلبني ليجعل مني أداة طيعة في يده ويزيدني إصرارا بائسا على إصراري؟! لماذا أُحاول إكمال ما أعلم أنه ناقص؟

ووجدت الإجابة الشافية في دموع مريم وإصرارها على أن تتكلم, على أن يعلو صوتها, رغم علمها بإن احتمالية عودة حقها في بلدنا هذا تساوي نفس نسبة نجاحها في الثانوية العامة, إلا أنها لم تسكت, ولن تسكت, فهم يهابون الصوت العالي!

وجدت الإجابة الشافية لدى رجل عجوز فقير بكشك تصوير ورق, لا أعرفه ولا يعرفني, ذهبت إليه بالأمس بعد الامتحان لأبحث لديه عن \”فكة\”, فوجدته ينظر إلى عيناي الدامعتين برقة ويقول: \”وما نيل المطالب بالتمني, ولكن تؤخذ الدنيا غلابا\”

شعرت بأن الله يُرسل لي الرسائل, شعرت بأنه غلاّب, ووثقت بأنه يجيب دعوة المظلوم ولو بعد حين!

أتمنى أن تحصلي على حقك يا مريم, وأن يجمعني بك الدهر يوما لأراك تدرسين الطب في منحة من جامعة أجنبية, نعم يا عزيزتي, فإذا استمررت هنا، ستتحولين إلى آلاء أخرى, آلاء ذات أحلام يغطيها التراب وخيوط العناكب, وتحلم ليلا بأنها قاتلة لديها فصام!

أهربي يا مريم.. أهربي!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top