(1)
\”يا جماعة إحنا في حاجة خطيرة جدا عمرها ما خطرت في بالنا.. إحنا ممكن نموت قبل ما نتجوز!\”
\”قصدك إننا ممكن نموت قبل ما نحضن ونبوس وكده؟\”
\”اتكلم عن نفسك.. أنا عشمي في ربنا كبير\”
حوار دار بين أحمد رزق وفتحي عبدالوهاب وأحمد عيد في فيلم \”فيلم ثقافي\”.
ذلك الفيلم النابغة الذي لم ولن يتكرر مجددا.. الفيلم الذي وصف وبدقة حالة الجوع الجنسي التي تلتهم المجتمع المصري.. حيث حق الإنسان في ممارسة احتياجاته البيولوجية رفاهية كبيرة!
(2)
رأيت منذ بضعة أيام فيديو يتداوله متصفحو الفيسبوك لرجل خمسيني في الشارع.. يتلفت يمنى و يسرى.. ثم يتحسس مانيكان بلاستيك ترتدي فستانا قصيرا.. امسك صدرها بقوة وقبله وتحسس مؤخرتها.
تداوله الجميع ساخرين منه مستهزأين به ضاحكين من الرجل وما يفعله.. لكني لم استطع الضحك، واكتئبت اليوم بأكمله بسببه.. لم اعرف حقيقة شعوري حياله, هل هو شفقة؟ غضب؟ كل ما اذكره هو مدى إحساسي ببؤس هذا الرجل.. نعم إنه بائس لاشك! أن يكون الإنسان بالغا قادرا عاقلا ويتحرش بمانيكان مصنوع من البلاستيك؟! يا إلهي.
ظللت اسأل نفسي.. ألم يشعر كل أولئك الساخرين الضاحكين بمدى الرعب الذي سببه لي هذا الفيديو؟ ألم يتحسسوا منه؟ ألم يشعروا بفداحة المصيبة التي نحن على وشك الوصول إليها.. أو أننا وصلنا إليها بالفعل؟ ألم يرسل لهم الفيديو إشارات واضحة وصريحة عن ذلك الجوع الجنسي المستعر بقوة بيننا؟! ألم يسألوا أنفسهم، ولو لجزء من الثانية، كيف وصل رجل في الخمسين من عمره إلى هذا الحد من البؤس؟
(3)
نظر إليّ بحنان هامسا: \”مالك\”؟ اشفقت عليه من إخباره بالأفكار المتصارعة في عقلي.. اعلم جيدا أنها ستحزنه.. ابتسمت وقلت: \”مفيش.. بافكر.. هل هاييجي يوم ونتجوز فعلا؟\”.. انطفأت لمعة عينيه التي اعشقها فجأة، وابتسم ابتسامة مرتعشة، وقال في نبرة هادئة محاولا الاحتفاظ بنبرة صوته الهادئة الرزينة: \”ماتقلقيش.. أنا مش هابعد\”
اعرف هذا جيدا.. اعرف أنك لن تتركني، لكن مازالت الأفكار تعصف بعقلي وتستهلك وجداني وتبعثر طاقتي.. اخاف كثيرا من أن اصحو يوما لأجد أمي تبلغني بوجود \”عريس جاهز\” آت لخطبتي.. اخاف من الغد.. مني.. هل سأظل متماسكة وقوية كما وعدتك؟ هل سأقف بكل جسارة أمام عائلتي معلنة رفضي لهذا الذي أتي لشرائى؟ وإذا رفضته.. هل سيأتي غيره؟ ماذا سأفعل حينها؟
هل ستنتهي رحلة بحثك عن عمل بجهود مثمرة؟ هل سننجح في أن نجد بيتا يقينا نظرات الناس الوقحة حين تضمني أثناء سيرنا سويا؟ هل سيأتي اليوم الذي اسير فيه ممسكة يدك دون أن اخاف من أن يرانا أحدهم؟ أم سنعود من هذه الرحلة الشاقة بخفي حنين؟
أنا لا اعلم ماذا سيحدث في المستقبل.. لكنني اعلم أني سأظل احبك طالما لازلت اتنفس.
(4)
كانت صديقتي تستذكر لامتحانها.. تحيط بها الأوراق وأكواب النسكافية اللانهائية.. فجأة انتفضت بقوة وقالت: \”اقري كده.. اقري اللي أنا مخططة عليه ده\”, فوجدت نصا صغيرا ملون بقلم التحديد الفسفوري يقول فيما معناه إن الإنسان بحاجة لأن يُشبع حاجاته البيولوجية الأساسية لكي يكون إنسانا سعيدا, فيجب أن يأكل ويشرب ويتزوج ويمارس الجنس ويُكون أسرة وعائلة وأصدقاء, بل ويجب أن يعمل عملا يحبه.. عملا يناسبه.. كل هذه مجرد \”حقوق أساسية\” واحتياجات أولية بدائية.. الطعام والجنس والنجاح, وحين تتحقق هذه الاحتياجات، يمكن للإنسان أن يحلم.. تبدأ إنسانيته في تكوين الأحلام والطموح، ويبدأ عقله في ترتيبها حسب أولوياته ومعالجاتها في شكل مدخلات، واضعا لها طرق معينة لتحقيقها ووضعها موضع النفاذ.
دمعت عيناي بشدة, ليس كمدا لا سمح الله, بل من كثرة الضحك!
قولت في نفسى, من أين أتى الأخ الدكتور المؤلف بهذا الهراء؟! ايقصد أنه حتى نستطيع أن نقول إن الإنسان يحيا حياة آدمية طبيعية، يجب أن يتوفر له مأكل ومشرب وأن يعمل, وليس أي عمل، بل عمل يحبه ويُناسب شخصيته! بل ويتزوج أيضا ويُكون عائلة، ويدّرس كتابه هذا لطلبة مصريين في مناهج تعليمية بجامعات مصرية؟! طب هو مصدق نفسه؟!
تذكرت وقتها جملة قالها صديق لي – متحدثا عن حبيبته- مزقت قلبي أربا.. قال: \”عارفة يا آلاء.. أنا نفسي اتجوزها قبل ما اموت.. بس\”.
(5)
نعم.. إنها الحقيقة المُفجعة.. في بلادي.. تصبح الحقوق البيولوجية الأولية، مجرد أحلام.. الأكل النظيف غير المسرطن حلم.. الماء النقي حلم.. الجنس حلم.. العمل حلم.. المرتب الذي يكفي ليسد الاحتياجات الاساسية للمعيشة حلم.. أن تشتري بيتا صغيرا أو أن تسكن في شقة مناسبة ولو كانت إيجارا جديدا حلم.
في بلادي, يسير مئات الآلاف من الشباب هائمين على وجوههم كالأحياء الأموات.. يكدحون.. يسعون بلا كلل حتى يبنوا بدمائهم وسنين عمرهم بيتا صغيرا مناسبا للزواج.
في بلادي, حين تسأل أحدهم ما هي أمنياتك للمستقبل يجيبك: \”اتجوز واجيب عيلين يملوا عليا حياتى\”، أو \”اهاجر\”.. حتى الهجرة حلم!
في بلادي, يعيش المئات على مياة الصرف والفوسفات, هذا إذا كانت موجودة من الأساس.
في بلادي لا مكان للإبداع والموهبة والنبوغ.. كلنا نسير كثور في ساقية, نعمل لنأكل.
في بلادي لا وقت لتجارب الشباب الخرقاء, لقد شاب شعر أصدقاء لي في العشرينات من عمرهم.
في بلادي, يستعر الجوع الجنسي ويتأجج, ولا يطفأه شئ! يُنتج لنا مسوخا.. أشباه آدميين يسيرون بيننا, ينتهكوننا وينتهكون آدميتنا ويمسخوننا مثلهم.
في بلادي, إذا أجريت إحصائية لتعداد فئة الشباب مؤخرا, ستجدنا في تضاؤل مستمر, فمنا من سافر ومنا من يبحث عن أي فرصة للسفر.. منا من قضى نحبه في محاولة للهجرة غير الشرعية أو تحت عجلات قطار، أو في قسم شرطة من كثرة التعذيب أو ببساطة في \”ماتش كورة\”، ومنا من ينتظر.
في بلادي, تقف طوابير من الألوف المألفة ببطاقة التموين، تنتظر أكياس من المنتجات الرديئة التي تكفي لسد القوت بالكاد.
في بلادي, يُشترى الناخبون بأكياس من الزيت والسكر.
في بلادي, يتم التحرش بمانيكان من البلاستيك!
في بلادي، يحدثونك عن حب الوطن.. يخونونك إذا تنازلت عن جنسيتك لتهرب من هذا البلد الظالم أهله.
أي حب هذا الذي يطلبونه منك، وأنت في الثلاثين من عمرك، ولازلت تعيش في بيت والدي.. أي حب هذا الذي يمكن أن تعطيه لوطنك بعد أن ذقت ألوان العذاب في المعتقل؟! أي حب هذا الذي يمكن أن تشعر به إذا كنت تعرف أنك مُعرض في أي لحظة لأن تُختطف من بين أصدقائك.. من وسط أسرتك, حتى من لجنة امتحاناتك، ويُلقى بجثتك صباح اليوم التالي في الصحراء؟!
في بلادي ليس من حقنا أن نحيا.. أن نحب.. أن نشعر.
(6)
لطالما رغبت في مقابلة كاتب سيناريو فيلم \”جاءنا البيان التالي\”, فقط لاسأله: كيف لخص حال دولة بأكملها في مشهدين \”كوميديين\” لا يتعديان الدقيقة.. أحدهما هو ذلك المشهد الذي يذهب فيه محمد هنيدي إلى منطقة عشوائية باحثا عن عروسين ربحا \”غرفة نوم\” في مسابقة تابعة للشركة التي يتولى حملاتها الدعائية, تلك الحملات التي تدغدغ أحلام البسطاء, فيفرح العروسان بشدة ويحتضن سليمان عيد –العريس- \”مولة\” السرير بقوة, فينادي هنيدي على العمال قائلا: \”بسرعة يا ابني ده هايغتصب المولة\”.
المشهد الآخر هو ذلك الذي يذهب فيه هنيدي بصحبة زميلته المذيعة حنان ترك لإجراء مقابلة مع مواطنين عشوائيين لحلقة عن السنة الميلادية الجديدة, فيتحدث مع أحد الجالسين على مقهى شعبي سائلا إياه: \”راس السنة بتمثلك إيه؟\”، فينفعل المواطن بشدة صارخا: \”راس السنة بتاعتك دي بتفكرني إن عندي 40 سنة ومفيش ست.. اتخرجت من الجامعة عندي 24 سنة.. طلعت معاش مبكر وأنا عندي 34 سنة.. مفيش جواز.. مفيش عيال.. مفيش حب\”، فيرد هنيدي بتلقائية شديدة: \”مفيش داعي\”، ويفر فزعا من أمام وجه المواطن الغاضب.
في المرة المقبلة حين تشاهدونه.. لا تضحكوا.. أصل فعلا.. مفيش داعي.