آلاء الكسباني تكتب: رابعة.. والذنب الذى لا يُغتفر

(1)
رغم تخصصى بقسم العلوم السياسية فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، إلا أننى لم أحب السياسة خارج الكتب النظرية قط، فمنذ أن تخرجت في الكلية وأنا أجد نظريات الفكر السياسى والفسلفة السياسية المثالية التى لطالما آمنت بها تتحطم واحدة تلو الأخرى على نصال الممارسة السياسية الحقة، ولذلك أحرص بشدة على الاحتماء بفقاعتى الخاصة، ولا أدلو بدلوى فى شىء إلا ذلك الذى يثير عقلى ومشاعرى للدرجة التى تجعلنى عاجزة عن عدم الكلام، وأقول مشاعرى معطوفة على عقلى رغم إيمانى بعدم وجود مساحة للمشاعر فى السياسة، وأن كل التنظيرات الصادرة عن مشاعر شخص ما بشأن حدث سياسى هى باطلة وإن كانت صحيحة، فالمشاعر ليست لغة للتخاطب فى مرادفات القوة والمصلحة والضغوط السياسية، أقول مشاعرى، لأنها الشىء الوحيد الذى قد يدفع مثلى للكلام، فالعاقل فى بلد مثل مصر يصمت دائمًا، ينظر إلى الأشياء فى تطورها السريع المُطّرد غير المنطقى بدون إبداء أى تعليق، مُكتفيًا بابتسامة صفراء واهية تشبه تلك التى نضعها فى ختام كل نقاش لا يؤدى إلى شىء على مواقع التواصل الاجتماعى، ومن أهم ما أثار مشاعرى، مذبحة رابعة.
(2)
كان الموضوع ليمر حقًا عليّ هذا العام ككل عام، لولا المنشور الذى كتبه أحمد المُغير على صفحته على الفيسبوك، والذى سارع بمحوه بعد كتابته بقليل، مدللًا بهذا على تصرف غامض لا يمكن تفسيره بسهولة -سواء بقيامه بفعل الحكى باعتباره شاهد عيان أو بمسح هذه الشهادة فى غضون وقت قصير من كتابتها- فقد دفعنى هذا المنشور إلى التساؤل:

لماذ يتحدث المغير الآن؟! بعد ثلاث سنوات كاملة من الحادثة يخرج علينا ليدلل على استنتاج وصل إليه الكثير من المحللين والسياسيين ودلل عليه العديد من الصحفيين الحاضرين للموقف دون أن يُحسبوا على الإخوان، مُسيئًا بذلك إلى سمعة الإخوان، ذلك الكيان الذي يقتات بغباء سياسى فذ على ما حدث فى تلك المذبحة تحديدًا، ليحصدوا تعاطف الكثيرين على حساب أرواح ذهبت إلى بارئها.


(3)
لن أنكر أننى قد خجلت من إنسانيتى بعد فض رابعة منذ ثلاث سنوات، حيث أمسكت بنفسى أقول: \”أحسن\” عند معرفتى بالخبر، ظنًا منى أن الله قد أذاقهم من نفس الكأس الذى أذاقوه للثوار فى فترة حكمهم، إلى أن رأيت الصور، فوجدتنى أبكي بهستيريا، معتذرة مغمغمة بكلام غير مفهوم للقتلى فى الصور، مستغفرة الله على شتماتى في القتل، ولازلت أعيش بهذا الذنب إلى اليوم، والذى ساهم فى تقرحه بعد اندمال طويل، تلك المنشورات التى قرأتها من بعض من يحسبون أنفسهم تقدميين ليبراليين يسعون إلى الثورة والخير والحب فى كل مكان، والتى يستشهدون فيها بمنشور المغير مهللين فرحين بأن الحق قد ظهر، وأن ما يُطلِق عليه المثاليون اسم \”مذبحة\” لم يكن سوى صراع سياسى مسلح بين طرفين انتصر فيه الأقوى، فالتفويض كان ضرورة والفض كان ضرورة للتخلص من الإرهاب اللعين المحدق بنا، وكأننا الآن نعيش أزهى عصور \”قلة الإرهاب\”!
كل هذا دفعنى دفعًا إلى طرح السؤال الذى مازلت أعجز عن إجابته: لماذ يتحدث المغير الآن؟\’
(4)
وسواء كنا سنعرف إجابة هذا السؤال أم لا، وسواء كنت ممن لا يعتبرون المغير -بتاريخه الأسود- شخصية متزنة يمكن أن نقبل منها شهادة تمس حدثا لن يُمحى من ذاكرة الوطن أبدًا، أو كنت ممن يعتبرون شهادته رغم تاريخه الأسود أساسًا مهمًا فى توثيق الحدث ورؤية الوجه الآخر، فإن كل هذا لن يمحي البديهيات الأساسية التى يفرضها الوضع:

هل كان الاعتصام مُسلحًا؟ ربما.

ربما كان مُسلحًا، ولكن ليس بالقدر الذى يبيح الانتهاك الصارخ الدموى الذى فعلته أذرع الجنرال.

هل كانت هناك خطورة من بقاء هذا الاعتصام قائمًا، على المواطنين وأفراد الأمن المخلصين؟ بالطبع.

إن أى اعتصام فى أى دولة في العالم يحتمل تشكيله خطرا ما ولو بصورة غير مباشرة، لكنه لا يبرر أبدًا قتل ألف مواطن بلا تردد! إن فرضية تسليح الاعتصام تسليحًا كاملًا من عدمه لا تقلل من الإرهاب الذى صنعه الجنرال بيده، ولا تمحو آثار الدماء من على يده.

هل لا يستخدم الإخوان (الكيان)، الحدث فى لمحة من الكربلائية لتبرير غبائهم وفشلهم السياسى ولجلد المجتمع باستمرار والمتاجرة بالقتلى للكسب السياسى الحقير؟ بلى.

لكن هذا لا ينفى وجود عملية القتل التى وصل ضحاياها إلى الآلاف وارتكبها فصيل سياسى لم يسع أبدًا لمصلحة الوطن، بل لمصلحته الشخصية وسط تهليلات سادية ترى فى القتل عدلا وفى الخسة شرفا.
(5)
إن ما فعله أحمد المغير لا يخرج كثيرًا عن نطاق الغباء السياسى الذى لا يكف الإخوان (الكيان) عن وصم أنفسهم به بدون قصد مباشر، فهو لم يكتب هذا من باب التطهر من وجود نية للإرهاب أو القتل من جانب الإخوان؟ وإنما تستشعر فى نبرات كلماته المدوية، لمحة من الفخر والرغبة فى إبراز التفوق، كأنه يقول إن هؤلاء الشجعان الأسود زادوا عن موضعهم فى \”موقعة\” رابعة كالفرسان، قتلوا من قتلوا وأصابوا من أصابوا، وهم فى هذا على حق، متشبع بيقين السَرية الواحدة التى على قلب رجل واحد لتهزم عدو الله، وهو يقين موجود فى كل صفوف الجماعة على تباين المادة التى يوجهون يقينهم لها، وهو شىء لم يُعبر عنه أحد بذكاء شديد وعبقرية فذة سوى فيلم \”اشتباك\”، فلم يكن على لسانى أثناء مشاهدتى له سوى: \”هما جايبين اليقين ده منين؟\”، أو\”هما إزاى أغبيا كده؟\”

فى كل الأحوال، تبقى \”رابعة\” ذنبا لا يُغتفر لكل مُلتحِف بالثورية يبررها، وسُبة فى جبين كل إخوانى يحملها على عاتقه فى نضالات مُفتعلة كاذبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top