هل تساءلت يوما من أين تأتي الأصوات الصغيرة التي تُزاحم بعضها البعض في عقلك؟ هل تساءلت كيف يمكن لمشاعرك أن تنتقل ما بين الحزن والفرح والخوف والغضب؟ من أين تأتي هذه المشاعر؟ كيف تحدث ومن المسئول عنها؟
حين كنت طفلة, كنت أتأمل نفسي في المرآة وأنا أبكي كالبلهاء, كان لدي فضول غريب لأعرف من أين تأتي الدموع! وقد زدت شغفا تجاه البكاء حين رأيت عمتي تبكي يوم زفاف ابنتها, فأنا لم أعتد قط رؤية أحدهم يبكي حين يكون فرحا.
ولم ينته سوء فهمي للمشاعر هذا، حتى بعد أن كبرت, فقد ظلت بالنسبة لي شيئا معقدا غير مفهوم!
كيف أمكنني الضحك بصوت عال في جنازة أبى؟ كيف دمعت عيناي حين أمسكت بشهادة تخرجي وحصولي على البكالوريوس اللعين؟ كيف وقعت في الحب بشدة, ثم كرهت من أحببته بشدة؟ كيف أشعر بالحنين لمن هجرني؟ كيف أفرح حين أشتري ملابس جديدة أو أركض على السلم أو ألعب ببوطي الأسود اللامع في البركة الصغيرة التي يُكونها ماء المطر في الشتاء؟ كيف أنتشي بسماع أغاني الفيس بريسلى؟ كيف يعتلي وجهي ذلك التعبير البائس المُتقزز حين أرى البامية أو اتذوق القهوة الخالية من السكر؟
كل هذا أمكنني تفسيره من خلال فيلم \”Inside out\”
لم اؤمن قط بأن أفلام الرسوم المُتحركة تُصنع للأطفال فحسب, فأنا أقع في غرام أغلبها وأتعلم منها وأتأثر بها بقوة, وهذا ما حدث مع هذا الفيلم تحديدا.
يبدأ الفيلم بـ \”رايلي\” وهي تفتح عيونها على العالم لأول مرة, لنرى والدها ووالدتها يبتسمان لها في حنان وكأننا بداخل رأسها, وبعد جولة بسيطة في حياتها نتعرف على خمسة مشاعر تتحكم في انفعالات \”رايلي\” وتصرفاتها, الفرح والحزن والقرف والخوف والغضب, ونفهم أن هؤلاء هم الأبطال الأساسيون للفيلم.
تصحبنا المشاعر الخمسة في رحلة في رأس \”رايلي\”, ما بين العقل الباطن واللاوعي والمخاوف العميقة في النفس البشرية وما بين الوعي والذكريات القديمة المُهملة التي تُنسى مع الوقت والذكريات الأساسية التي تقوم عليها الشخصية, وتُفسر لنا تصرفاتنا وأفكارنا التي كثيرا ما نستغربها بعد أن ننفذها بالفعل.
يُصحح لنا الفيلم الكثير من المعتقدات الخاطئة حول المشاعر, فليس كل الخوف أذى, ليس كل الخوف يقيدك ويثنيك عن المضي قدما وعن التجربة والمحاولة, بل إن بعض الخوف خوفا عاقلا, يبث في نفوسنا الشئ الوحيد الذي لم نكن لنفعله لولاه, مُراجعة أنفسنا وقراراتنا, كما يُصحح لنا نظرتنا للحزن, فيجعلنا نرى فوائده, وأنه لولا الحزن لما شعرنا بقيمة اللحظات السعيدة الخاطفة التي تمنحنا إياها الحياة في غفلة من الدهر, لولا الحزن لما قدّرنا قيمة مُبهجات الحياة الصغيرة التي لا تراها عيوننا إلا في الأزمات, كالحلوى والسكاكر والبيتزا والعناق والأصدقاء والهوايات والغناء بصوت مُضحك وعال, كما يُفسر لنا تصرفاتنا الخرقاء المجنونة, وجموحنا الشديد للمرح الطفولي حتى بعد أن ننضج, وارتباكنا الخجول أمام من نحب, وسر إعادة ألحان الإعلانات السخيفة في رؤوسنا مرارا وتكراراً!
يضعنا الفيلم أمام حقائق الذاكرة المُجردة, يوضح لنا ما نحاول أن ننساه دائماّ أو نتناساه, وهي أن الله قد منحنا النسيان كنعمة بالفعل! فلكي يستطيع الإنسان أن يُكمل حياته، يجب أن ينسى, أن يُضحي ببعض الذكريات حتى يتمكن من العيش بسلام, وهذا لا يحدث عن إرادة واعية خالصة منه, بل كما عالجها الفيلم تماما, حيث وضعها في صورة صديق طفولة \”رايلي\” الخيالي الذي ضحي بنفسه من أجل إنقاذ ذكرياتها الأساسية التي تُعد المُكون الرئيسي لشخصيتها.
لم أتمالك نفسي من البكاء حين رأيت \”بينج بونج\” يُضحي بحياته ويرمي بنفسه في اللاوعي، حيث مصيره النهائي النسيان، من أجل صديقته الوحيدة \”رايلى\”, وانقبض قلبي لفكرة أن أنسي أرنبي \”النونو\” يوما ما, صديق طفولتي الوحيد, لكني سرعان ما احتضنته بقوة ووعدته أن يظل معي إلى آخر يوم بحياتى!
اثبت لي الفيلم أن مشاعرنا تصبح أكثر تعقيدا حين ننضج, وأن مشاعرنا في الطفولة تكون أحادية شديدة, إما الحزن أو الخوف أو الفرح, لكن مع تطور شخصياتنا وتوسُع مدراكنا وإدراكنا للأشياء من حولنا واختلاف أحلامنا يوما تلو الآخر, تتعقد مشاعرنا وذكرياتنا, فنشعر بالخوف والحب والحنين معا, أو الغضب والحزن والرهبة معاّ, نصبح كرات كبيرة مُلونة, ورغم اختلاف ألواننا نظل نحلم ونحيا ونحب! نظل نمارس أدوارنا في الحياة, نظل بشرا!
إذا تحدثنا عن الأداء الصوتي للشخصيات, فلا يسعني إلا أن أحب جميع الممثلين, لكن اسمحوا لي أن أنبهر وبقوة –تحديدا- بـ \”فيليس سميث\” التي قامت بدور \”حزن\”, فهي و\”جولي كيفنر\” التي لعبت على مدار سنوات دور \”مارج سيمسون\” كانتا أكثر من أبهرتاني في عالم الأداء الصوتي للرسوم المتحركة.
في النهاية لا يسعني القول إلا ان هذا الفيلم طفرة في عالم الصناعة السينمائية, تجربة جديدة لكل من يشاهده.
سيضحكك, سيبكيك, سيجعلك تبتسم برفق, وسيجعلك ترى نفسك من الداخل قبل أن تراها من الخارج في كل مشهد من مشاهده, لتلوح صائحا بصوت طفولي: \”يا إلهى, أنا افعل هذا دائما!\”