آلاء الكسباني تكتب: حلو كده يارب؟

(1)
كانت بدون مبالغة أقوى شخصية فى المكان، مجرد ذِكر إسمها يزلزل كيان الجميع، والتهديد بالذهاب إلى مكتبها كافٍ لإسكات أى مُشاغب! إذا قابلها أحدهم فى طريقه إلى أى مكان ترتعد مفاصله بشدة، إلى أن يمر كل منهما فى طريقه، يحاول الجميع تحاشيها بقدر الإمكان، لأنك إذا سقطت فى يدها، فلتقل على نفسك يا رحمن يا رحيم! إنها \”ميس ج\”!
كانت \”ميس ج\” نائب مدير مدرستى، لكنها مختلفة تماما عن أى نائب مدير مدرسة قد تسمع به فى حياتك، فهى تحرص على انتظام الطُلاب والتزامهم بالقوانين المدرسية بحزم شديد، شديد زيادة عن اللزوم! بل وكانت تعتنق قاعدة أساسية فى مسيرتها التربوية المهنية، قاعدة واجبة التطبيق، حتى إنها كانت تقف فى طابور كل صباح لتقولها مرارً وتكرارً، فيسمع الطلاب من أصغرهم إلى أكبرهم صوتها القوى الحازم صارخًا فى المايكروفون \”اسمها وزارة التربية والتعليم، يعنى التربية الأول وبعدين التعليم\”، ورباه كم كانت تعمل على تطبيق هذه القاعدة تطبيقًا مؤلمًا للغاية، تستعيده ذاكرتى كلما مرت عصاها الغليظة المشهورة بخاطرى.
وكان أكثر ما تحرص \”ميس ج\” على قيام الطلاب به هو أداء الطلبة لصلاة الظهر الجماعية فى \”حوش\” المدرسة أثناء الفسحة، بل بلغ حرصها الشديد على هذا إلى حد تعيين شرطة مدرسة منوطة بحراسة الفصول أثناء الفسحة حتى لا يختبئ أحدهم فيها هربًا من الصلاة الإجبارية كل ظهر، ومن يتم الإمساك به مُتلبسًا بهذه الجريمة الشنعاء يُضرب بعصاها الغليظة ضربات تُضخِم يداه وتُورِمها بحيث لا يَعُد قادرًا على رؤية أصابعه، وكأنها استحالت قطعة حمراء من اللحم! أما مع الطالبات فكانت تستخدم \”ميس ج\” تقنيات عديدة لكشف كذب أى واحدة تقول إنها تمر بدورتها الشهرية، فقد كنا جميعًا فى نظرها كاذبات فى هذا إلى أن يثبُت العكس!
ومن ثم، تتحول الفسحة يوميًا إلى جمع من الوجوه البائسة مُصطفة خلف مدرس التربية الدينية تؤدى صلاة الظهر، ذلك المدرس الذى كنت أشعر به يتلذذ بالإطالة فى الصلاة إلى الحد الذى يجعله يقرأ ما تيسر من القرآن كله فى الأربع ركعات، إلى أن تنتهى الفسحة كلها ونحن نُقيم الصلاة، ولم ننل منها ولو لحظات قصيرة!
كان عقلى الصغير لا يستوعب سر هذه الدعوة الشرسة المقيتة للصلاة، فأنظر إلى السماء كل يوم ليلًا وأسأل فى براءة؛ \”لماذا يحدث هذا يا ربى؟ أتغضب منى لأننى لا أصلى حين أعود للمنزل؟ لكنى لا أفعل هذا لأُغضِبك، أرجو أن تسامحنى\”

تذكرت كل هذا وأنا أرى صورًا مُتفرقة على الفيسبوك لطُلاب فى مدرسة بالشرقية يصطفون خلف معلمهم لأداء الصلاة فى مشهد روحانى جميل تقشعر له الأبدان، فلربما لديهم نسخة من ميس ج، لربما ليس كل ما نراه حقيقيًا بما يكفى!


(2)
منذ بضعة أيام طالعنى منشور للناشطة الحقوقية ومديرة البرامج بمؤسسة المرأة الجديدة لمياء لطفى، تتحدث فيه عن إجبار ابنتها ندى الطالبة بالصف الأول الإعدادى على ارتداء الحجاب فى المدرسة هى وبعض زميلاتها غير المحجبات، بالرغم من إنه ليس جزءا من الزى المدرسى، وبالرغم من تصريح مديرة المدرسة للطالبات بقدرتهن على خلع الحجاب ما إن تطأ أقدامهن خارج المدرسة، فحاولت التواصل معها لمعرفة أبعاد الموقف.
أخبرتنى الأستاذة لمياء إن ندى وبضع من زميلاتها ذهبن للمدرسة فى صباح أول يوم دراسى ليفاجأن بمديرة المدرسة تتعنت فى صعودهن إلى فصولهن، لأنهن لا يرتدين الإيشارب الأبيض الذى زعمت أنه جزء من اليونيفورم المدرسى، وبعد إصرارهن على الذهاب لفصولهن، تبعتهن الأخصائية الاجتماعية –التى يكمن دورها الأساسى فى متابعة نفسيات الطلاب والحفاظ على سلامتها!- ومرت على كل الفصول فصلا فصلا، لتؤكد على ضرورة ارتداء إيشارب أبيض للفتيات المسلمات فحسب، مع إنه لو كان زيًا مدرسيًا كما تدعى لكانت فرضته على جميع الطلبات باختلاف دياناتهن!
ولأن بنت الوز عوامة، رفضت ندى ارتداء الحجاب شكليًا فى المدرسة، ودعمتها أمها بشكل كبير، لأن هذا يُمثل حقها فى الاختيار، ويجعلها إنسانة غير ازدواجية قادرة على اتخاذ قراراتها فى اتساق مع نفسها فى ظل هذا الجو البائس المحموم من التدين الشكلى المقيت، وعلى العكس، رضخت أغلب زميلاتها لطلب المديرة وارتدين الحجاب، وهكذا احتدمت المعركة بين لمياء ومديرة المدرسة تحديدًا!
تصاعدت حدة المشكلة أكثر حين ورد للأستاذة لمياء اتصالًا من الاخصائية الاجتماعية بالمدرسة تخبرها فيه إنه تم توقيف ابنتها فى الفناء ومنعها من دخول الفصل بدون حجاب، حتى يحضر ولى أمرها، وبعد ذهابهم للمدرسة، أخبرتهم المديرة إن ندى بزيها هذا تعتبر مخالفة لقواعد المدرسة، فطلبوا منها ورقة رسمية من المدرسة مكتوب فيها إن الزى المدرسى يتضمن ارتداء الحجاب، وبالطبع رفضت!

(3)
إن هذه ليست المرة الأولى التى يُجبر فيها الطُلاب على ممارسة التدين الشكلى فى المدارس بشكل عام، بل يحدث هذا منذ زمن سحيق، بل بلغ الأمر من الوقاحة إلى حد إجبار المسيحيات على ارتداء الحجاب فى بعض قرى الصعيد، ويحدث هذا فى مدارس عادية جدًا غير إسلامية، بل مدارس لغات خاصة وتجريبية وحكومية عادية!
وما هالنى حقًا أنه قبل معرفتى بالأستاذة لمياء، التى تخوض حربًا ضارية الآن فقط من أجل حق ابنتها فى الاختيار فتدشن الهشتاجات على الفيسبوك وتتقدم بشكاوى للمديرية التعليمية، لم أجد أبدًا ولى أمر يشتكى تَوَرُم يد ابنه بسبب إجباره على الصلاة، أو يشتكى ألم قدمى طفله من طول تذنيبه لأنه لم يحفظ سورة يس كاملةً، أو يشتكى إجبار ابنته على الارتداء الحجاب، لم أجد أى أحد يشتكى انخراط الأنشطة الدينية الزائدة التى تستهلك وقت الطلبة فى القراءة واللعب والاستمتاع بسن المراهقة والطفولة على حد السواء، لم أجد أحدا يشتكى أداء العبادات الخاصة بشكل مفرط فى المدارس من الأساس، مع إن قوانين المديرية التعليمية تنص صراحةً على عدم إجبار الطالب على ممارسة نشاط أو ارتداء شىء لا يمت بصلة لأنشطة المدرسة ولا لزيها المدرسى الأصيل! ربما لأن أولياء الأمور أنفسهم يجدون فى هذا، الاستحسان الكبير، ظنًا منهم أن المدرسة تُعلم أبناءهم الدين السليم، ومن ثم لا يشتكى أحد، الجميع يصفق له على إنه شىء محمود يُقوّم الطلاب ويضعهم على الطريق الصحيح!
لكن ما يجب أن يعرفوه أن المدرسة منوط بها تعليم الأخلاق! الأخلاق التى وُجِدت من قبل وجود الأديان نفسها، الأخلاق التى بُعِث الرسول الكريم لاتمامها، الأخلاق التى تُعلم الطفل أن يكبر ليكون إنسانًا سويًا مستقيمًا يُراعى الله فى السر والعلن، لا يصلى خوفًا من امرأة تمسك بعصا غليظة وتدور خلف الطلاب لتضربهم ضربًا مُبرحًا فى مشهد يُشبه مذبحة من القرون الوسطى، فيقفون بين يدى الله بؤساء مطأطئي الرأس كارهين للصلاة من الأساس، الأخلاق التى تُعلِم الطفلة أن تكون حرة الاختيار غير ازدواجية فى قراراتها، فترتدى الحجاب ابتغاء مرضاة الله وتخلعه اتساقًا مع نفسها بإنها لا تصلح لارتدائه!
إن الله جل فى علاه بذاته العلية قال لا إكراه فى الدين، وبالرغم من هذا نرى الكثيرين يدفعون الآخرين للدين دفعًا مؤذيًا، فيتدخلون فيما لا يعنيهم، ويقررون للآخرين ما الذى يجب ارتداؤه وما الذى يصح عمله، وبعد ممارسة الضرب والإهانة والتدخل والتعنت باسم الله ينظرون إلى السماء صارخين: ها.. حلو كده يارب؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top