(1)
\”الحرام مش إنى أغنى.. الحرام مش إنى أحب، الحرام هو الكلام اللى نصه يا عم كدب\”
عندما سمعت دينا الوديدى تغنى أول مرة فى حياتى، كانت من خلال هذه الأغنية، \”الحرام\”، وقد تجلى صوتها بشدة فى الطبقات العالية منها، لتسكرنى وتسحرنى بصوتها، فأبحث لها عن المزيد من الأغانى وأملأ بهم هاتفى المحمول وحاسوبى، لأعود إليهم كلما أصبانى المزاج العكِر فى محاولة لإضفاء الصفاء عليه.
دينا لا تغنى من أحبالها الصوتية فحسب، بل تغنى من قلبها، تصحبنى معها فى رحلة من خلال صوتها أعود منها خفيفة الروح، وقد ألقيت همومى التى تثقلنى بعيداً، واحداً تلو الآخر مع كل \”كوبليه\” تغنيه.
تفاجئت صباح البارحة بخبر عن سحب تصريح الغناء من دينا بناءً على تعليمات نقيب الموسيقيين \”هانى شاكر\”، الذى يناسبه جداً وصف الروائى أحمد ناجى له -فى مقاله على المصرى اليوم- بـ\”نقيب الأحزان، صاحب مهمات قتل المتعة\”، لأنها –فى رأيه- قد سبت النقابة حين أعلنت فرحتها بقرار سحب الضبطية القضائية من النقابة على صفحتها على الفيسبوك.
وبغض النظر عن صحة ما هو منسوب إليها من \”تهم\”، وبغض النظر عن أنه لم يتم التحقيق فى هذه التهم معها ليتم على غرار هذا التحقيق سحب تصريحها بالغناء، إلا إن هذا الخبر قد استوقفنى كثيراً، لأنه من المفروض أن النقابات المهنية تسعى لحماية أعضائها لا فصلهم وتشريدهم، لكن هذا الوضع يختلف فى مصر طبعا حين تصبح النقابات مرتعا للنظام و\”تكية\” لجنرالاته، فيستطيع الزند بعد جلسة أُنس وفرفشة أن يصدر قراراً بحق النقابة فى الضبطية القضائية، وإذا اعترض أحد الفنانين المنتمين للنقابة يصبح الحل الأمثل هو المنع من الغناء.
يُشعرنى \”هانى شاكر\” بقراراته منذ أن تولى منصب نقيب الموسيقيين أنه الأب الروحى للطرب الأصيل والمطربين، هو الذى يُرشِد ويوجه بناء على \”مشواره الفنى الطويل\”، وكأن هذا المشوار قد أعطاه الحق ليصبح المرشد الروحى للموسيقيين وليعلمهم الأدب، وليوجههم إلى ما يجب قوله من عدمه، فيعاقب من يخطئ بالمنع من الغناء ويكافئ من يصيب من وجهة نظره، وكأنه أب يجب أن يمتثل له أبناؤه ويقدمون له فروض الطاعة والولاء، وإلا سيمنع عنهم المصروف أو يحرمهم من أبوته! ولهذا عاقب دينا بمنعها من الغناء، لأنه من العيب أن تسب النقابة وقرارات الزند، فحين يقرر الكبار يصبح الأمر نافذا، ولا يمكن للصغار أمثالنا أن يناقشوه، عيب!
(2)
طالعنى البارحة خبر غريب للغاية على موقع إخبارى، لدرجة أننى حسبته نكتة عندما قرأته.
يقول الخبر إنه قد نجحت مباحث شرطة الجيزة فى القبض على أحد المواطنين الذى أعلن أنه \”فيجان\” أمام الجميع، وقد صرح مصدر الخبر أن المدعو\” م.ع 25 سنة عاطل عن العمل\”، قد أعلن أنه أصبح فيجان، أى لا يأكل اللحوم ولا مشتاقاتها ولا الدهون النباتية، مما دفع بعض المواطنين الشرفاء للإبلاغ عنه، وتم القبض عليه، حيث وُجِهت له تهم \”زعزعة ثوابت المجتمع، العبث بمقدرات البلاد والسخرية من ثوابت الأمة وازدراء الأديان\”.
ورغم أننى كنت على يقين تام بأن هذا الخبر محض دعابة، إلا أننى بعد أن قرأته مرة واثنين وثلاثة، لم استبعد حدوثه فى بلد مثل مصر، يصبح فيها التحول لنظام غذائى نباتى، تهمة بالتشكيك فى ثوابت المجتمع ونقدها والسخرية من مقدرات الوطن والعبث بها، فدولتنا الأبوية لا تسمح لأحد بأن يسير عكس التيار، أو أن يعبر عن نفسه ولو بنظام غذائى، لأنها بالطبع أدرى بمصلحتنا كمواطنين، وإلا لماذا يحكموننا؟!
إن من واجبنا كمواطنين شرفاء أن ندع الدولة تتدخل فى طعامنا وشرابنا وملابسنا وغرف نومنا أيضاً، فهى وحدها تعلم الصواب من الخطأ، هى الأب الروحى الذى يقود القطيع فى الأزمات، لذلك هى أكثر منا دراية باللازم والمطلوب، ونحن علينا أن نسمع، وألا نتحدث فى الموضوع مرة آخرى بعد أن يصدر قراراها النهائى.
(3)
شن مصطفى بكرى حملة قانونية ضخمة برعاية مجلس النواب على المحامى \”طارق العوضى\”، لأنه قد حاول أن يحمل المجلس على التصويت على مصرية جزيرتى تيران وصنافير، مُتهِماً إياه بالخيانة والعِمالة، فقط لأنه حاول أن يدافع عن جزء من أرض مصر، ولأن كل صوت خائن مُغرِض يجب إسكاته، كان يجب لـ\”طارق العوضى\” أن يسكت، وأن يصدق فى قرارات الدولة الأب ومؤسساتها المنُزهة عن النقص، وإلا كيف يصبح وطنياً؟!
لقد قُدِر لنا كشعب أن نعيش فى كنف ورغد الدولة، هى لم تطلب منا أى شىء سوى أن نصدق بها ونؤمن فيها، وننفذ ما تقوله بدون نقاش، فالوطنية من الثوابت فى مصر أيضا، والدولة هى الوحيدة القادرة على وضع التعريف النهائى لكلمة \”وطنى\”، فتعريفها دائماً هو الصحيح، وإن اختلف مع كل معاجم الدنيا، وإن خالفنا تعريفها نصبح هادمين لثوابت المجتمع عابثين بمقدراته غير عابئين بمصلحته الكبرى.
(4)
إن ثقافة الأبوية فى مجتمعنا شىء يدعو إلى التقزز والغثيان، وحقيقة لا اعلم إلى متى يجب علينا أن نظل نسمع دون أن نناقش، إلى متى علينا أن نلتزم بمقدرات الأمة وثوابتها؟ ومن قال إن هذه الثوابت لا تقبل النقد أو المناقشة؟
مخطأ من يظن أن الحالات الثلاث السابقة غير متشابهة أو بعيدة كل البعد عن بعضها البعض، فقط لأنها تدور فى أكثر من حيز أو فى نطاقات مختلفة، إنما لكل منها جذور تمتد لتصل إلى نفس المنطلقات، وهى أن الدولة بمختلف مؤسساتها ترى علاقتها بنا علاقة أب بأولاده.. علاقة غير سوية بالمرة، قائمة على امتلاك الأب للأبناء، فقط لأنه أنجبهم إلى هذه الحياة، ولأنه مارس دوره الطبيعى كأب فى أن يوفر لهم حياة كريمة –هذا إن وفرها من الأساس- فمقابل كل جنيه يصرفه على احتياجاتهم الشخصية يجب ألا يناقشوه فيما يفعل، يجب ألا ينتقدوا قراراته، وأن يتركوا له العنان فى إدارة الدفة، إلى أن يغرق بهم جميعا بإذن الله، لا يجب أن يسبوا أو يغنوا أو يحبوا أو يأكلوا بشكل لا يتناسب مع رؤيته الخاصة، وإلا يكونوا \”عيال قليلة الأدب عايزين رباية من أول وجديد\”.
يقول الروائي أحمد ناجى فى مقال \”نقيب الأحزان ومهماته فى قتل المتعة\” إن أكبر عدو للإنسان هو ما يجهله، ولذلك فهو يطلق النار عليه، نعم، إن الدولة تطلق نيران الصمت علينا، لأنها تجهلنا، وتظن أنها بذلك تُسدى لنا خدمة، فرصاصاتها –فى نظرها- رصاصات رحمة لابن جاحد أنكر فضلها ويوماً ما سيعود إلى رشده ليعيش بالذنب، فلماذا تحمله ما لا طاقة له به؟ إنما هو منطق أهوج يماثل منطق ديكتاتور جمهورية أنتيكا الشعبية المهلبية فى مسرحية تخاريف حين قال \”ده شعبى.. كان شعبك يا كابتن؟ أنا اللى لقيته وأنا اللى أحكمه\”!