(1)
استيقظت فى الصباح الباكر لأنجز لأمى بعض الأوراق فى الشهر العقارى، ذهبت إلى هناك بعينين يملأهما النعاس ورغبة ملحة فى الانتهاء قبل وفود عشرات المواطنين وازدحام المكان.
وأثناء انتقالى من شباك لآخر، طالعنى موظف كشير الوجه، لا يبش ولا يبتسم، قدمت له أوراقى، فإذا به ينظر إلىّ من خلف لوحه الزجاجى متفحصاً، وغمغم بكلام غير مفهوم، ثم قال لى: \”إذا أذنت لى يا آنسة، ممكن أطلب منك شيئا، اعتبرينى أخ كبير ليكِ\”، فقلت \”خير؟\”، قال: \”نزلى كم الجاكيت\”!
نظرت إلى ساعدى لأجد معطفى مرفوعا بعض الشىء، فسددت له نظرة حادة قائلة بكل وضوح: \”لأ\”، ليستمر مسلسل البجاحة، فيسألنى متعجباً من إجابتى –المنطقية- \”ليه؟!\”، فأجبته مجدداً بابتسامة سمجة: \”أنا حرة! أطلب بقى أنا من حضرتك طلب كأخت؟ ممكن حضرتك تشوف شغلك وتخلصنى؟\”، ولولا علمى بأن أى تصرف حاد منى سيُعتبر اعتداء على موظف أثناء تأدية عمله –مع إنه تعدى علىّ فى البداية- سيُعطل مصالحى ويضعنى تحت أمر جنابه، لكنت كشفت له عن وجه قبيح لى لا يمت لهيئتى الناعمة كأنثى بصلة، ولم يكن ليتمنى أن يراه أبداً!
بعد أن عدت إلى بيتى وأنهيت معاملاتى فى مصالح بلدنا الحكومية الجميلة، فكرت كثيراً، وتساءلت، هل حقا توجد فتنة شديدة فى الجزء الصغير البارز من ساعدى؟ هل هذا الجزء له من الأهمية الكبيرة والضرورة القصوى التى تجعل رجلا فى العقد الرابع من عمره يترك عمله ومصالح عشرات المواطنين وينشغل بمطالعة وتفحص يدى وذراعى؟! وحقيقة، لم أجد أى إجابة مقنعة.
لم تكن هذه المرة الأولى التى يتدخل فيها أحد لا علاقة لى به ولا علاقة له بى فى شىء يخصنى ولا يعنيه إطلاقاً، لم تكن المرة الأولى التى يتفحصنى فيها أحدهم بشدة، أو يعتبر أن من حقه الإدلاء برأيه غير المرغوب فيه فى شكلى وطريقة ملابسى، لكنها كانت المرة الأولى التى يتسم فيها هذا الشخص بالبجاحة المتناهية، لأن يتساءل معترضاً \”ليه\” حين أرفض رأيه وطلبه وتعليقه، وكأنما يجب علىّ أن أوافقه بدون تفكير أو تردد، بل واعتذر منه عن حريتى الشخصية التى لم تضره أو تمسه بسوء.
(2)
أصبحت هذه البلد تبهرنى بحق، يظن أغلب مواطنيها إنهم دائما على صواب فيما يعنيك، يظنون أن لهم الحق فى أن يخبروك بما تفعل وما لا تفعل، كيف تتصرف، فيما تفكر، وكيف تفكر فيه، بل ويتوقعون منك أن توافقهم الرأى دون أن يبدر منك أى اعتراض، وإذا رفضت يندهشون، لماذا يرفض هذا الأحمق ما نعتبره نحن لمصلحته؟!
إن ما فعله معى موظف الشهر العقارى يتعدى التحرش غير المباشر أو النظر للمرأة على أنها كائن ناقص لا يعرف مصلحته ويجب فرض الوصاية الأبوية الأخلاقيه عليه، وإذا رفض هذا الكائن وصاية المجتمع يُعد ناشذ، فإذا عمقنا مناظير رؤيتنا للموضوع بعض الشىء، نجد أن هذا السلوك تتم ممارسته من قِبل أغلب أعضاء المجتمع على بعضهم البعض، بل تتعدى فرض السلطة الأبوية إلى أجهزة الدولة نفسها، حيث تُوجه المواطنين إلى ما تراه هى وحدها مناسبا وصحيحاً، ليسمعوا كلامها،\”كلامها هي بس\”، فنجد نقيب الموسيقيين يبلغ الشرطة عن حفل لعزف موسيقى \”الميتال\” -التى يحبها ويفهمها الشباب على الأغلب- ناعتا إياها بحفل ممارسة عبادة الشيطان، وحين يعترض جمهور الحفل، يقرر النقيب تقديم استقالته، فيلحقه المجلس كله، اعتراضا على ذوق طائفة معينة من الجماهير، واعتراضا على اعتراض هذا الجمهور على تبليغ الشرطة وملاحقة حفلات موسيقى الميتال ومنعها، برغم أن هذا النوع من الموسيقى لا يتضمن أى شىء خارج أو غير قانونى أو يضر أى أحد، إنما هى فقط الرغبة فى ممارسة السلطة الأبوية الاخلاقية، وفى توجيه الجموع تجاه ما يرونه هم فقط الواجب والطبيعى والمسموح.
ولو حللنا خطاب الرئيس السيسى الأخير، نجد أنه يكرر بصياغات مختلفة مفهوما واحدا، إنه هو الأوحد القادر على القيادة، وهو الوحيد الذى يمتلك مفتاح القرار، وما علينا جميعا إلا أن نسمع ونطيع، فهو يعرف مصلحة مصر كما يراها، ونحن لا نفقه شيئاً، ولا نملك من أمرنا رشداً، ولذلك لا يجب أن نعترض، فعلينا فقط أن نسكت، وألا نناقش.. أن نطيع فحسب.
(3)
\”الكلام المباح فى الكَفْر بقى حاضر ونعم وبس\”
لطالما رددت جملة زينهم شيخ الغفر فى مسلسل العهد – الذى كتبه بحرفية متناهية السينارست الرائع محمد أمين راضى- كلما طالعنى خبراً أو تصريحاً من أحد مسئولى دولتنا، أو كلما أخترق أحدهم مساحتى الشخصية بما يكفى لينصب نفسه حاكما حكيما على حياتى، ليخبرونى جميعهم بما علىّ أن أفعل أو أرتدى أو حتى نوع الموسيقى التى يجب أن أستمع لها.
أعتقد أن مصر قد أصبحت الكفر الذى تحدث عنه أمين فى مسلسله، فلم يعد الكلام المباح هنا سوى نعم وحاضر، وأنا لا اتحدث هنا من وجهة نظر سياسية فحسب، بل واجتماعية أيضاً.
يجب على الدولة بأجهزتها المختلفة أن تخلع رداء رهبان التبت، وتكف عن ادعاء الحكمة الواهية، فما هى إلا أفراد وموظفون تحت إمرة الشعب، ومن حقه أن يبدى اعتراضا على إدارتهم إذا ساءت، ففى هذه الحالة فحسب يمكننى أن أحاسب موظف الشهر العقارى الذى اقتحم خصوصيتى ومساحتى الشحصية ليعلن عدم موافقته الفجة واعتراضه غير المسموح به فى ملابسى، وإلا إن ظلت بلدى هكذا، فستظل السلطة الأبوية دورة لا يخرج مواطنيها منها، فإذا كان رب البيت بالدف ضاربا، فما بالك بأهله؟!