منذ بضعة أيام نشرت الفنانة شيرين عبدالوهاب صورا لها على موقع التواصل الاجتماعي \”إنستجرام\”، تبكي فيها ويتضح أثر البكاء المرير الطويل على جفنيها المنتفخين، مُعلقة بأنها تحتاج إلى دعوات الجميع بشدة، والحقيقة أن التعليقات المصاحبة لهذه الصور قد أذهلتني بحق، فالشعب المصري لا يكف عن إبهاري يوما تلو الآخر، فقد كانت التعليقات كلها عبارة عن سب وقذف وسخرية من شكلها وهي باكية، لم يفكر أحدهم فيما قد تفعله فيها هذه التعليقات، لم يفكروا ولو لجزء من الثانية قبل كتابتها أن الكلمة رصاصة يمكن أن تجعلك قاتلا بدم بارد!
جعلني هذا أفكر في ظاهرة \”الإرهاب أو البلطجة إلكترونياً\” أو ما يُعرف بالـ Cyber bullying.. إن البلطجة أو الـ Bullying بمفهومها البسيط، في الحقيقة هي أن يقوم شخص ما أقوى منك جسديا أو نفسيا أو فكريا باستغلالك أو إيذائك بأي شكل ممكن، بالسخرية من شكلك أو شخصيتك أو مظهرك أمام الآخرين أو التسفيه من أفكارك ومعتقداتك أو نشر الشائعات التي تضر بسمعتك أو ضربك أو حتى الإستيلاء على مالك أو طعامك بشكل دوري ودائم، وهذا التصرف غير مرتبط بسن معين أو مرحلة عمرية، يمكن أن يكون قد حدث لك وأنت طفل في مدرستك، يمكن أن يمارسه عليك أبواك أو أحد زملائك في العمل، يمكن أن يمارسه عليك زوجك أو حبيبك، هي بمثابة إرهاب فكري وجسدي يمارسه عليك من يظن أنه يستطيع إخفاء نقاط ضعفه الجسدية والنفسية عنك، أو من يشعر أنك أصغر من أن تدركها، أو أنك إنسان سوي ولن تستغلها ضده.. نعم، فمن يفعل هذا ليس إلا مريضا هشا يحتاج إلى مصحة نفسية فوراً!
هي تجربة ببساطة تجعلك تكره حياتك، وفي كثير من الأحيان نفسك، خاصة حين يكون من يمارسها عليك شخص قريب للغاية منك، أو يُفترض أنه قريب، أو حين لا يعلم من يمارسها عليك أنه بهذا قد أصبح مُتنمرا أو بلطجيا، فالكثير لا يعرفون معنى التنمُر أو الإرهاب الجسدي والفكري، فوالداك لا يؤمنان بأنهما يتنمران عليك حين يسخران من شكلك أمام أقاربك، وأخوك لا يدرك أنه يتنمر عليك حين يسرق مصروفك دائما بالإكراه، وزوجك لا يدرك أنه يتنمر عليك حين يأخذ مرتبك كاملا عنوة، أو يقلل من شأنك أمام أقاربه وزملائه، بل إن ضحية التنمُر لا يدرك أنه هو نفسه ضحية في بعض الأوقات، وهذا يحدث كثيرا في العلاقات العاطفية التي يُستهلك فيها نفسيا الطرف الأضعف، أو يُمارس فيها الابتزاز العاطفي بقسوة.
وأظن أن أغلبنا قد مر بتجربة مماثلة.. أنا مثلا قد عشت أسوأ أيام طفولتي بسبب السخرية من وزني الزائد، من جميع أقراني وأحيانا معلميني ووالداي، كانت تمر عليّ أيام أشعر فيها برغبة مُستميتة في أن أتلاشى أو أختفي، وإذا نقبت في ماضيك أو حاضرك عزيزي القارئ، لربما تجد الكثير من الأحداث التي تتفق مع كلامي، لربما تسترجع –رغماً عنك- بعض الذكريات التي يحاول عقلك إخفائها عنك باستمرار!
مع ازدياد اعتمادنا على وسائل التواصل الاجتماعي في بناء علاقات جديدة نتيجة الاغتراب الذاتي الذي يعيشه الكثير منا، في مجتمع دائما ما يلفظ المختلفين عنه ويضعهم على رفوف العلاقات الإنسانية السوية، إلى أن تبني العناكب بيوتها في قلوبهم، انتقلت البلطجة والارهاب معنا إلى العالم الافتراضي، فلم يكتف المتنمرون بإفساد العوالم الواقعية، وعز عليهم أن يروا أن البعض يحاول أن يخرج من شرنقة الوحدة بإيجاد أشخاص مثله يشاطرونه أفكاره واختلافه، وقد سهّلت الوسائل التكنولوجية وتعدد مواقع التواصل من فيسبوك وإنستجرام وآسك-إف.إم وغيرها هذه الظاهرة للغاية، حيث تتيح للجميع ممارسة اليوجنيا الفكرية، والقتل غير الرحيم لأشخاص -نفسيا وفكريا- بالتعليق على كتاباتهم أو صورهم الإلكترونية بشكل يهينهم ويقلل من شأنهم، غالبا بشكل خفي لا يجعلهم يُدركون هوية الشخص الذي يحادثهم، فانتشر الإقصاء الفكري والنميمة والسخرية اللاذعة والنقد غير البنّاء من الشكل والمعتقدات والأفكار والمشاعر، فالجميع في نظر المُتنمر الإلكتروني مدّعون متصنعون، يجب إيقاظهم من فقاعاتهم البلهاء، سواء أكانوا فرحين أم مُكتئبين، بل وتعدى هذا إلى التحرش الجنسي الإلكتروني الصريح، فيكفي أن تتصفح رسائل الفيسبوك من فئة \”أخرى\” لتجد كل ما يهيج أمعاءك ويُقززك ويُشعرك برغبة في القئ!
وما يُحزني حقا أن الكثيرين يعتبرون هذه الظاهرة تافهة لا تستحق الالتفات إليها، لكن ما لا يدركونه أن الناس ليسوا جميعا بالقوة الكافية التي تجعلهم لا يهتمون لكلام الآخرين، فلو تخيلوا أنهم يستيقظون كل صباح على رسالة من أحدهم تدعوهم إلى الانتحار، لأنهم ليسوا ذوي فائدة في الحياة، وأن العالم سيصير مكانا أفضل بدونهم، سيعرفون مدى حجم الكارثة! فأنا لا أُبالغ، لقد حدث هذا بالفعل لصديقة لأحد أصدقائي، وأودت بها هذه الرسائل إلى الانتحار فعلاً.
لم تعد وسائل التواصل الاجتماعي رفاهية أو وسيلة للتسلية وتضييع الوقت، بل أصبحت جزء لا يتجزأ من حياتنا، ولو كان سقراط يحيا معنا في هذا العصر لغيّر مقولته من \”تكلم حتى أراك\” إلى \”أعطني عنوان صفحتك على الفيسبوك حتى أراك\”، وحين يُصبح جزء لا يتجزأ من حياة الإنسان، تحت تهديد دائم بنشر تعليقات وصور وتلفيق اتهامات وأخبار كاذبة ونميمة لا حصر لها وسب وسخرية من أي وكل شئ يؤثر هذا ولا شك على صحته النفسية ويؤدي إلى الانتحار، الذي يمكن هنا أن نعتبره بمثابة القتل العمد.
هذه الظاهرة لا تحدث في مصر فقط، وإنما في جميع أنحاء العالم، لكنها تُعامل في دول العالم على أنها جريمة يُعاقب عليها القانون مثلها مثل التحرش والاغتصاب والقتل والسرقة، لكننا نعيش هنا في طبق من مرق الكوسة العجيب، لا توجد ضوابط أو قوانين لأي شئ، ولا يُعترف أصلا بفكرة الصحة النفسية والإنسانية، نحن نعيش في مجتمع يعمل بدأب وبكل قسوة إلى إيصالنا جميعا إلى حافة الجنون الأخلاقي، مجتمع مؤذ بطبعه وبدون رادع، يرى صورة لامرأة تبكي وتشحذ الاهتمام وتشعر بالوحدة، فيعيب في شكلها وشخصيتها، مُتهما إياها بالـ \”مُحن\” والسعي المستميت للفت الأنظار!
يا سادة، نحن لم نعد بشرا، نحن مجرد أحياء-أموات أو \”زومبيز\” نتغذى على العنف والسادية وعلى إهاناتنا لبعضنا البعض، واقعيا أو إفتراضيا، رغم يقيننا أننا جميعا مُستهلَكون!