آلاء الكسباني تكتب: الكمال كنز يفنى

كنت دائما الفتاة الكاملة، يحيطني حب أساتذتي ومعمليني، بسبب تفوقي الدراسي المشهود به، يعشقني والداي لالتزامي الزائد بالقواعد، أخاف دائما حين يضيع قلمي بالمدرسة، لا انخرط في المعارك أو الشغب، أجلس بهدوء في الفسحة التهم طعامي وأنهي فروضي وأسلمها في مواعيدها.

كنت دائما محط سخرية من زملائي، كنت بلهاء الفصل، مع أنني أكثرهم نجابة وتفوقا، إلى أن وصلت إلى الصف الثالث الإعدادي.

تعرفت على \”شلة\” بنات، كن الأكثر تأثيرا في حياتي، لم يكن مشاغبات بالمعنى الحرفي، كن فقط يفعلن ما يحرمه علينا الكبار من وراء ظهورهم! تعلمت معهن ومنهن وبهن الكثير الكثير، ورأيت عوالم أخرى خارج حدود الكتاب المدرسي الذي كنت أحفظه وأحفظ موضوعاته بأرقام الصفحات.

كانت أول مرة في حياتي أترك الدرس وأذهب للتسكع، معهن، جلبنا الطعام وجلسنا على شاطئ البحر، كانت هذه المرة الأولى التي اتناول فيها الجبن المقلي، كنت التهم الساندويتش بسعادة غامرة ولذة لم أجدها في الطعام من قبل، حتى إنني أدمنت ساندويتشات الجبن المقلي إلى يومنا هذا!

بسببهن اقتربت من أول شاب في حياتي، الذي دغدغ مشاعر مراهقتي البريئة وسلبني عذرية تجربة الوقوع الأحمق في الحب!

وبعد أن كبرت، وجدت أن كل ما فعلته معهن لم يكن أكثر من \”شقاوة العيال\” ومُراهقة، لكن ظلت هذه التجارب الشقية الصغيرة محفورة في وجداني إلى يومنا هذا، كلما اتذكرها ابتسم ابتسامة عريضة وتغرورق عيناي بالدموع، فأنا لم أندم قط على شئ فعلته بهن أو معهن، لأن كل تجربة خرجنا فيها عن قواعد الكبار، كانت سببا في  أن أكون ما أنا عليه الآن، فلولاهن ما كانت آلاء القوية المُتمردة العنيدة لتُخلق من الأساس!

وهذا هو حال نينا.

نينا فتاة هادئة الطباع، ذات صوت خفيض، تطيع أمها في كل شئ، ليس لديها صديقات كشلتي لتعيث معهن فسادا، تخرج من بيتها كل صباح لتذهب إلى المركز الذي ترقص فيه الباليه مع فرقتها، وتعود ليلا لتتناول العشاء الخفيف مع والدتها وتنام.

تعشق نينا الكمال، هو هدفها الوحيد المنشود، يهمها أن تتقن كل حركة وكل رقصة حتى وإن كان ثمن هذا أن تتوقف عن التنفس أو أن تكسر أصابع أقدامها من كثرة التدريب، لكن كان في انتظارها الكثير من المفاجآت، مفاجآت كانت سبباً في تحولها 180 درجة، تماما كما تحولت أنا.

قُبلت نينا في عرض باليه هو حلم بالنسبة للكثير من الراقصات، بحيرة البجع، وكان عليها أن تلعب دورين، البجعة البيضاء وتوأمها الشرير البجعة السوداء، والحق أنه لم يوجد أدنى مشكلة في دورها كبجعة بيضاء خجولة ورقيقة وهشة للغاية، لكن المشكلة الحقيقية كانت في البجعة السوداء، الفاتنة الشريرة التي تسعي لغواية الأمير، فلم تكن نينا تملك الشجاعة اللازمة لإخراج الجانب الشرير للعب هذا الدور، فهي تخشى ألا تكون كاملة، تخشى أن تخرج عن القواعد، تسير دائما بجانب الحائط أو حتي بداخله، غير واعية لأن أولئك الذين يسيرون بجانب الحائط سيخطئون مهما حدث، سيصيبهم الخطر الذي يحاولون التملص منه دائماً، ولن ينفعهم الاختباء!

تحولت نينا مع الأحداث إلى مريضة نفسية، ترى هلاوس سمعية وبصرية، ورغم أنها خسرت عقلها، إلا إنها كسبت نفسها أخيرا، تمردت على الأوضاع ومزقت الشرنقة الخانقة التي كانت أمها تحيطها بها، تعلمت أن تترك العنان لنفسها قليلا لكي تستطيع أن تحيا، لكن بعد فوات الأوان!

والحقيقة أنني بعد أن شاهدت الفيلم أكثر من مرة، تفتقت في ذهني قضية مهمة، ففضلا عن أن نينا تعلمنا أن السعي للكمال وهم، وأن كلا منا كامل بطريقته، وأنه لا عيب أبدا في أن نخطئ لأننا بشر، وأن أخطاءنا هي التي تصنعنا وتّكون شخصياتنا، وأن نتقبل الجانب الشرير من شخصياتنا وأن نسعى لتحجيمه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، جعلتني نينا أيضا أُفكر في حال الفتيات في مصر، حيث تتربى الفتاة منذ الصغر على ألا تلعب مع الأولاد في الشارع، تتربى على أن تكون دائما هادئة الطباع، ذات صوت خفيض، يتورد وجهها من أقل كلمة، يجب ألا تكثر من الطعام لتظل نحيفة رشيقة، يجب ألا تعارض والديها أو ذويها أو زوجها -لاحقا- في أي قرار يقررونه بشأن حياتها، يجب أن تظل تتنازل دائما عن مصلحتها الشخصية في سبيل الآخرين، يجب أن تلتمس الأعذار للجميع، فكلهم يتحكمون بها بحجة الخوف عليها، لكن لا أحد يلتمس لها العذر إن أخطأت، يجب أن تعيش راضية قانعة، يجب أن تكون كاملة!

علمتني نينا أن أعشق تمردي، أن أظل أؤمن بقناعاتي وأفكاري وأطور منها ما حييت، عملتني أن الحياة بمقاييس الكمال لديهم ماسخة لا طعم لها، علمتني أن أحب تفاصيل أنوثتي، أن أحب البثور الصغيرة التي تعتلي وجهي، أن اطمئن لعدم ارتدائي للكعب العالي، علمتني أن أحب شعري المجعد وكل تفاصيل جسدي الممتلئ الذي يسخرون من عدم كماله، علمتني أن أتقبل أخطائي وأضعها في ألبومات ذكرياتي وأجاهر بها دونما خجل، فهي – كما قلت- السبب في أن أكون ما أنا عليه الآن.

عزيزاتي الفتيات المصريات، أقبلن أنفسكن كما أنتن، أحببن مظهركن وشخصياتكن، ارتكبن الأخطاء وتعلمن منها، أعشقن، أحببن ندوب أرواحكن وأجسادكن، تقبلن الفراق والهزيمة وقفن من جديد، لا تسعين لأن تكن كاملات بمنظورهم، وإلا ستكون العواقب وخيمة، وينتهي بكن المطاف مثل نينا، منتحرات، فالكمال كنز يفنى، لا يبقي سوى أرواح مُتناحرة حزينة، والعيش كفتاة كاملة في هذا المجتمع لا يُشجع على الحياة من الأساس!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top