آلاء الكسباني تكتب: الرجل المصري وبُعبع "السيس"

(1)

كان يرتشف قهوته على مهل، طلب مني أن اناوله الحقيبة \”الكروس\” التي بجوارى، اخرج منها كتبه ونظر إليّ قائلا: \”أتعلمين أن والدي في الصعيد يسخر من هذه الحقيبة ومني كلما رآني أحملها؟ عندما عدت في الإجازة ورآني بها لأول مرة خاطبي بلهجته الصعيدية الحادة قائلا: آني موديك بحري عشان تتعلم ولا عشان ترجع لي لابس شنطة حريمي؟\”

لم أر وجها للشبه بين هذه الحقيبة البالية ذات اللون القاتم التي لا تخلو من الكتب وعلب السجائر الفارغة وبين الحقائب النسائية!

سألته: \”وهل الحقائب حكر على النساء في الصعيد؟ لماذا لا يستطيع الرجال أن يحملوا حقائب أيضاً؟!\” قال بابتسامة ساخرة: \”هكذا الأمر، الرجل الصعيدي لا يمكن أن يحمل حقيبة أو يرتدي الأحمر، كالذي يرتديه صديقنا هذا\” – وأشار إلى صديق يجلس معنا – \”وممنوع منعا باتا أن يرتدي الشورت، لدينا قواعد مُعينة للرجولة، الرجل عندنا يجب أن يكون له شكل وأسلوب معين، حتى في التعامل مع نسائه، لكن أتعرفين ما الذي يثير شفقتي وسخريتي تجاههم حقاً؟ إنه بالرغم من أنهم جميعا يرسمون دور الرجل القوي ذو الشكيمة الذي يهز شاربه بلدا بأكملها، إلا أن المرأة الصعيدية تستطيع أن تجعل أي رجل ينصاع لها بذكائها، أنه أمر أشبه بطريقة تعامل فاطمة مع العمدة في فيلم \”الزوجة الثانية\”، إن الشعارات التي يرفعها الرجل المصري عموما والصعيدي خصوصا، تختلف تماما عما يحدث خلف جدران منزله\”.

لم اصدق ما يقول، استحلفته كثيرا حتى اقسم مئات المرات إن كل ما قال حقيقيا، وأن مفهوم الرجل في الصعيد يختلف تماما عن مفهومه عندنا نحن ساكني \”البحرى\” كما يطلقون علينا!

(2)

اقف في طابور طويل أمام شباك مدام علوية بتموين طوسون، لا لم اعرفها قبل اليوم، لكني عرفت اسمها من كثرة النداء عليها، ومن طول وقوفي في هذا الطابور الذي يمتد إلى اللانهائية وما بعدها، تقف أمامي امرأة نحيلة معها طفلان، تحمل الفتاة بكلتا يديها بينما يقف الولد بجانبها، لا اعلم كم مر من الوقت على وقوفنا، شعرت بالولد يتململ في وقفته وفجأة بدأ يبكي طالبا من امه أن تحمله مرارا وتكرارا، صرخت فيه صرخة مدوية خلعت قلب كل الموجودين -حتى مدام علوية نفسها-

\”انا مش قولت مفيش راجل يعيط؟ اوعى تعيط يا حيوان\” وانهالت عليه بصفعة كانت كفيلة بأن تخرسه، جذبته إليّ من يده برفق واعطيته بعض البومبوني من حقيبتي، فابتسم بخوف، ثم اخذها وأكلها في نهم، ظل واقفا حتى انهكه التعب وكتمان الدموع، فخانته حنجرته واصدرت صريرا صغيرا أشبه بمواء القطط الصغيرة، فرمته أمه بنظرة نارية اسكتته من جديد.

(3)

لا احب مشاهدة التلفاز كثيرا، لكنني كنت انتظر العرض الأول لفيلم \”هلأ لوين\” الذي لم يسنح لي وقتي المزدحم بدخوله في السينما وقت عرضه، وأثناء انتظاري للفيلم، باغتني إعلان لمنتج جديد من رقائق البطاطس، كان الإعلان عبارة عن بضع رجال في أوائل الثلاثينيات يلعبون البلياردو ويتضاحكون، وفجأة يظهر لأحدهم شبح زوجته أمام طاولة البلياردو، تعاتبه لأنه تركها بالمنزل يوم عطلتهما ولأنه لم يعد يجلس مع أطفاله أو يتيح الوقت الكافي للحديث معهم، بل إنه لم يذهب لدفع مصاريف المدرسة لابنهما الذي يشتكي منه كل المعلمين ومن مستواه الدراسي السئ، فيعطيه أحد أصدقائه هذا المنتج ويتناول منه بعض الرقائق فيتبدد هذا الشبح، ثم ينتهي الاعلان بجملة \”من حق الراجل يتدلع\”.

لم اكد استفيق من هذا الإعلان حتى طالعني إعلان منتج مشروب الشعير إياه، موجها حديثه للرجل قائلا: \”اشرب واسترجل.. طلع الدكر اللي جواك\”.

أحسست بالدم يصعد إلى رأسي ويمسك بتلابيب مخي ويضربه بجدارن جمجمتي يمنى ويسرى، فأغلقت التلفاز بسرعة خوفا على صحتي النفسية والبدنية!

(4)

رأيت علامات الكمد والفكر تعتلي وجه صديق لي، مازحته قليلا فلم يستجب، تجاذبت معه أطراف الحديث، حتى حكى لي ما به.

كان صديقي حزينا للغاية، لأن أحد أقرب أصدقائه نهره ناعتا إياه بـ \”الخول\”، ذلك لأنه رفض أن يذهب معه إلى شقته، حيث تنتظرهما سهرة حمراء مع أصدقاء آخرين، قال: \”لا اعرف ما السبب في أن ينظر لي أصدقائي هكذا، أنا لا ارغب في أن أجامع فتاة لا أشعر نحوها بشئ، لا أفهم لماذا عليّ أن أدخن والعب بقلوب الفتيات وأجامع كل امرأة أراها حتى يراني الآخرون رجلا! إن هذا المجتمع قد وصل بمفهوم الرجولة من السطحية والسفه ما لا يمكن أن يصل به أي مجتمع آخر، لم أعد أقدر على أن أحيا هنا، لم أعد أقدر!\”

 (5)

يتربى الرجل المصري منذ صغره على أن البكاء من شيم النساء، ومن ثم فهو لا يجب أن يبكي، بل لا يجب أن يقوم بأي تصرف ينم عن أي شعور إنسانى، سواء أكان شعورا بالضعف أو الحزن أو الفرح أو حتى العشق، يجب أن يكون دائما صلبا قويا، جبلا لا تهزه الرياح، فينشأ على ألا يُعبر عن مشاعره كأي إنسان طبيعي بسهولة.

يتربى الرجل في مجتمعنا البائس على أن للرجولة نمط معين وشكل محدد، إذا خالفه يسقط من حُسبان المجتمع ونظره، ويفقد شهادة الجميع برجولته، لا يجب أن يُطيل شعره، لا يُحبذ أن يرتدي الألوان الفاتحة بدرجاتها، يجب أن \”يشكم\” امرأته ويريها الويل وسواد الليل، لا يجب أن يكون رومانسيا أو حالما, فلكي تكون رجلا صحيحا هنا، يجب أن تعيش جامدا خال من أي إحساس!

يخطئ من يظن أن الرجل المصري يولد بجينات \”النطاعة\” والاستعلاء وفقدان المشاعر، بل تربيه أمه ويكافئه مجتمعه على هذا، ينشأ كائنا طفيليا، عالة على غيره، غير مُتحمل لأي مسئولية، وما يزيد الطين بلة ما ينميه فيه الإعلام، فمن حقه أن \”يتدلع\”، لا يجب أن يشغل باله بالجلوس مع ابنائه وزوجته، ومن الممكن جدا أن يؤجل دفع مصاريفهم المدرسية إلى أجل غير مُسمى وهو غير مسئول بالمرة عن متابعة مستواهم الدراسي.. هو فقط نزيل في فندق متكامل، يخرج إلى العمل ليأتي بحفنة من الجنيهات يضعها على طاولة الاستقبال من أجل أن يحصل على خدمات هذا الفندق من الجنس والنوم والطعام.

وضع المجتمع الرجال المصريين في حياة أسرهم وعائلاتهم في دور واحد وأساسي فقط، دور المصرف البنكي، لم أفهم ما سر اعتبار مشاركة المرأة في مصروفات بيتها مع زوجها سُبه في جبينه! أليس هذا بيتها مثلما هو بيته؟ ألا تعمل مثله؟ لماذا إذا تُعد مساندتها له جُرما يستحق أن يُعاقب عليه؟ ولماذا لا يعاونها في أعمال المنزل؟ من قال إن الأعمال المنزلية تحط من شأن الرجل أو تقلل من قيمته؟ لقد كان الرسول يخيط نعليه وثيابه، هل أنتم أعظم شأنا منه؟

بالطبع يوجد من الرجال من أنقذه القدر من مفرمة \”فورمة الرجل المصري\” –لحسن حظهم أو لسوءه- فرموا بتقاليد هذا المجتمع البائس عرض الحائط، وعاشوا مُختلفين، يمشون عكس القطيع، فيسبهم القطيع ويحتقرهم، يُلصق بهم أوصافا تلاحقهم أينما ذهبوا وتصبح رعبهم الأول والأخير مثل \”ممحون\” \”سيس\” \”مش راجل\” \”خول\”.. إلخ إلخ، لا يدرك من يسبونهم أنهم هم المسوخ، فقد مسخ المجتمع أرواحهم وحطم نقاءهم الإنسانى، صبغهم بعدوانيته وسرق منهم إنسانيتهم!

حُرم على الرجال المصريين التعبير عن الحب والحزن والأسف وتُرك لهم الغضب والكره، مُنعوا من الحياء والحنان، وصم لهم المجتمع تلك المشاعر النبيلة وأفهمهم أنه من الخطأ أن يشعروا بها، فهي للنساء فقط، كبروا على كبت مشاعرهم، فأصبحت نقطة سوداء في قلوبهم، تكبر وتكبر حتى تغطي أرواحهم بأكملها، فيمارسون القهر والعنف والقسوة والذكورية على النساء المصريات.

دائرة قذرة من الاضطهاد لا تنتهي.

أتعرفون إلى متى سنظل نزرح في أغلال عدم الخروج من هذه المتاهة؟

يوم أن يؤمن هذا المجتمع المسخ بقول أثير عبدالله: \”إن الرجولة لا تحتاج إلى برهان، لكن الإنسانية تحتاج لأن نبرهن عليها كل لحظة\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top