اليوم.. وللمرة الأولى فى حياتى، أنهيت علاقة استنزفتنى بشدة.
اليوم وبعد فترة لا بأس بها قررت أن أسترد نفسى التى أضعتها بيدى، وألقيت بها بمحض إرادتى فى دوامة كبيرة كقربان لأحدهم.
اليوم قررت أن أتحلى ببعض الشجاعة لأواجه شبح الوحدة والاكتئاب المخيف، وأنهى علاقة استهلكت الأخضر واليابس فى روحى التى أفنيتها وأنا أوفر كل طاقاتها لهذه العلاقة، هذه العلاقة التى جعلتنى غير قادرة على العطاء والانتاج والأمل، وأبعدتنى عن أقرب أصدقائى، الكتابة.
اليوم، وأنا على أعتاب عام جديد، استطيع بكل فخر أن أقول إن استردادى لذاتى التى ضاعت هباءً هو أحد أهم إنجازاتى، بل ولحظة ميلاد جديدة، تخلصت فيها من شراذم الماضى اللئيم.
إننى الآن أكتب بذهن صافٍ وقلبٍ سليم، أكتب لكم، للحياة، للحب، للصداقة والخير والجمال، أكتب حتى أتحرر من الغضب والحزن، أكتب لأحذركم من العلاقات المُستهلِكة.
يقع أغلبنا فى علاقات تستهلكه حد الفناء، سواء أكانت علاقة حب أو صداقة أو حتى علاقة عمل، فالكثيرون تستهلكهم وظائفهم، تجعلهم أشباه أحياء أموات، لا يشعرون بخيط الحياة الرفيع ينسرب من بيد أيديهم، ثم يصدمون حين تحدث المفاجأة الكبرى، حين ينظرون فى المرآة، ليجدوا المشيب قد خط رأسهم، والتجاعيد انتشرت حول الفم والعينين، والوحدة اللعينة تطاردهم رغم كل من حولهم من البشر، فهؤلاء يخرجون من الحياة بمعارف وليس بصداقات.
أما أمثالى ممن استهلكتهم العلاقات، فهؤلاء يكرهون أنفسهم بشدة، لأنهم سيتنازلون عن كل وأى شىء فى مقابل إبقاء هذه العلاقة على قيد الحياة، حتى لو إكلينيكياً، حتى لو أرتأى لهم أنه لا فائدة من تبديد الروح وأن الخسارة آتية لا محالة، حتى ولو كان الثمن حياتهم نفسها.
نعم، لقد تنازلت كثيراً، عن مبادئى التى تعبت بشدة حتى أصل إليها وأحصن عقلى بها، فى مجتمع يعتبرنى نصفه على الأقل عاهرة، فقط لأننى اؤمن بالنسوية والمساواة، ضحيت بقناعاتى الشخصية التى لطالما دافعت عنها من أجل أن أظل فى كنف بعضهم، غير عابئة بوخز العقل الذى ينخر فى قلبى كالسوس، مُتحاشية نظرتى لنفسى فى المرآة، مُقللة من كرامتى لأقصى حد، فقط لأنقذهم.
أمثالى ممن تستهلكهم العلاقات يهوون الانقاذ جداً، يسعون بشدة خلف الشخصيات المحطمة والأحلام المستحيلة، يلعبون دور \”دون كيشوت\”، فيحاربون طواحين الهواء، ملوحين لعقد الآخرين النفسية وللأحلام البعيدة بعصا من المثالية والأمل، يتبنون انقاذ الأشخاص من الوقوع فى هاوية مشاكلهم غير منتبهين إلى أن هذه الهاوية رمال متحركة، تسحبهم إلى الأسفل مع من يريدون إنقاذه، ويعملون على انقاذ الأحلام المستحيلة التى يرفضها العقل والمنطق من التلاشى فى الذاكرة المؤقتة، غير عالمين بإن بعض الأحلام يجب أن تظل مجرد أحلام!
كنت أشعر إننى أجرى وأنا واقفة فى مكانى، لم أكن أتحدث، لكن بداخلى كلام يمكننى أن املأ به مجلدات، تعبت جسديا ونفسيا، فقدت توازنى وشعرت بإننى أفنى ذاتى فى سراب، لم أكن لأتحلى قط بشجاعة إنهاء علاقة، لم أكن لأحتمل أن أكون سببا فى الإيذاء غير المُتعمد لأحدهم، كنت أبكى داعية الله أن يلقى بحبل التقطته وسط هذه الدوامة، وحين يستجيب لدعائى امسك بطرف الحبل وابتعد قدر الإمكان لالقى بنفسى داخل الدوامة مرة آخرى، ثم أكافح بمن معى لأصل إلى الشاطئ، لكنهم يتعمدون إثقال حركتى و يستهلكون من أنفاسى ما يجعلنى أنا غير قادرة على الحياة، دون حتى كلمة شكر واحدة، أو احساس بالامتنان والعرفان.
بكيت، يعلم الله وحده كم بكيت، لأننى لا أريد أن أكون السبب فى النهاية، فنهاياتى كلها درامية مثلى، حتى ربتت صديقتى الحميمة على كتفى قائلة: \”وإيه يعنى لما تكونى السبب فى النهاية يا آلاء؟ مش أحسن ما تنتهى انتى، اطلعى خطوتين برة وبصى عليكى، شمى نَفَسِك يا آلاء، شمى نَفَسِك\”
تركت الجميلة بسمة أو \”نورا\” فى فيلم رسائل البحر حبيبها الوحيد \”يحيى\” أو آسر ياسين يُعاملها على إنها عاهرة، رغم إنها زوجة شرعية مصونة لأحد الأثرياء، قالت إنها كانت تشعر فى قرارة نفسها بإنها عاهرة، لأنها الزوجة \”بتاعت الضلمة\”، المخصصة للمتعة، التى لا يتخلل علاقتها مع زوجها أطفال ولا مسئوليات ولا مستقبل، قالت إنه بسبب إيمانها من داخلها بإنها عاهرة، وإنه بسبب كرهها الشديد لنفسها، تركت يحيى يُعاملها على هذا الأساس، لم تحاول أن تشرح أو تُبرر أو تجعله يرى الصورة بوضوح، تقبلت منه هذه النظرة لأنها تشعر أنها تستحقها.
نعم، نحن دائما ما نبحث عن الحب الذى نظن أننا نستحقه، وقد بحثت نورا عن هذا الحب كما شعرت أنها تستحقه.
المُستهلَكون فى العلاقات هكذا أيضاً، يبحثون عن الحب والصداقة الذي يشعرون أنهم يستحقونهما، فالمشكلة لا تكمن فقط فى الأطراف الآخرى، يجب أن نعترف إننا مازوخيون بعض الشىء، نتلذذ بشعور الانتصار الناجم عن انقاذ أحدهم، مُتناسيين أننا أولى بهذا الانقاذ، وأن انقاذ أنفسنا فى مجتمع مثل هذا يُعد كالقبض على الجمر الساخن.
أكتب اليوم لأقول كل من يظن نفسه مُنقذا، لكل من يستهلك روحه مع الآخرين، اهرب، اهرب وابتعد قدر ما استطعت، هؤلاء يقتاتون على كل شئ فيك، لا يتركونك إلا بعد أن تصبح مثلهم، تحتاج إلى انقاذ!
إذا حسبتها، ستجد أنك تخسر أكثر مما تكسب، ستجد أن ثلاث أرباع الحب والقوة والطاقة الموجودة فى هذه العلاقة أياً كان نوعها، أنت السبب فيها وليس هم، سيدمرونك لا محالة، مهما حاولت أن تنقذهم، وإذا استطعت إلى ذلك سبيلاً ستشعر إنك قد وصلت خط النهاية بعد سباق طويل مع الزمن فقدت فيه أحلى أيام حياتك.
كلنا مرضى، لكن بدرجات متفاوتة، ومن يحب بدون مقابل هو الأم الرءوم فقط، ولم يضع الله عاطفة الحب بدون مقابل فينا من أجل الآخرين.
اخرج مفكرتك، احسب أنواع العلاقات فى حياتك، ابحث عن السعادة مع نفسك أولا قبل أن تبحث عنها مع الآخرين، تصالح مع نفسك وعيوبك، أحبب وحدتك ولا تخاف منها، لتكتشف الحب الذى تستحق بمجرد أن تقع عليه عينك، وقتها فقط لن يضيع عمرك هباء مع شخص آخر بغرض الانقاذ أو بسبب الخوف من الوحدة.
يا عزيزى لا تخشى الفقد، فبعض الفقد خفة، وأنا الآن خفيفة.. حد الطيران!