(1)
نقف جميعاً فى الكواليس، 10 دقائق على الظهور على المسرح، يغلب التوتر على أغلبنا، لكننا لا نسمح له بأن يمحو الابتسامة الجميلة التى تعتلى شفاهنا.
نصطف جميعاً خلف ستار المسرح، تحاول كل منا تعديل ملابسها أو إلقاء نظرة أخيرة على \”مكياجها\” و\”إكسسوارها\” الصعيدى فى مرآة نتشاركها جميعاً، خمس دقائق وسيُرفع الستار، ليبدأ عرضنا الراقص على أغنية حميد الشاعرى ومصطفى قمر \”واه يا غزالى\”.
أُعدل من ضفيرتى الطويلة وكردانى الذهبى، أنظر لصديقتى سارة ولباقى زميلاتى، نعم، كل شىء على ما يرام، أفكر فى أبى وأمى اللذين يحضران العرض، أود لو أشير إليهما أنى هنا فى الصف الأول من الفتيات، لكن مُدرِسنا مصمم العرض نبه علينا مراراً ألا نشير لأحد من الجمهور، رغم أننا كنا كبار بما يكفى لأن نفهم أن هذا لا يجوز، لكنه كان يعلم بتأثير فرحة القيام باستعراض راقص على مسرح المدرسة للمرة الأولى.
رُفِع الستار وبدأ العرض، بدأت الفتيات باتخاذ أوضاعهن، ارتفع صوت حميد يقول: واه يا غزااالى، ليدخل زملائى فى العرض من الشباب مُرتدين جلاليبهم الصعيدية، صانعين حلقة حولنا، لنتفرق، فيأخذ كل منهم شريكته فى الرقص، وليقوما بالـ\”روتين\” الذى تدربنا عليه مئات المرات.
ينتهى العرض بالتصفيق الحاد، أجرى خلف الكواليس لتغيير ملابسى بسرعة، فلازال أمامى عرض آخر أغنى فيه \”الحب الحقيقى\” لمحمد فؤاد.
تعصف هذه الذكريات الرائعة بذاكرتى كلما نظرت إلى الصور الموضوعة تحت زجاج مكتبى، خصوصاً تلك الصور التى أظهر فيها أنا وأختي سارة فى أزيائنا الصعيدية، تباغتنى ابتسامة واسعة على ثغرى سرعان ما تتحول إلى ضحك عال وقهقهة، ثم تستحيل إلى شبح ابتسامة لحنين خفيف يمر بى كلما وقعت عينى على الصور من جديد!
(2)
كنت فى صغرى فتاة شقية للغاية رغم تفوقى، فأنا الوحيدة التى أثبتت –فى مدرستى بالطبع- أنه لا علاقة بين التفوق والوجوم، كنت أشهر من نار على علم، يعرفنى جميع المدرسين لأننى أنخرط فى كل الأنشطة المدرسية التى قد تأتى فى عقولكم على تناقضها واختلافها، من إذاعة مدرسية إلى عروض راقصة، مروراً بمسابقات أوائل الطلبة وحتى الشرطة المدرسية حاولت الالتحاق بها، رغم إنها \”للولاد بس\”، فقد كانت تعجبنى حقاً الشريطة الحمراء والقبعة التى يضعها فريق الشرطة المدرسية، والتى تنم عن سلطة جبارة مفاداها القدرة على التواجد فى الفصول أثناء الفسحة، مع إعطاء الأذن لمن لديهم ظروف قهرية بهذا، وكانت هذه بمثابة حجة هروب قوية من عصا \”ميس جيهان\” التى تطول كل من تراه لا يصلى الظهر فى الفسحة، حتى وإن أقسمت لها إنك قد أديت فرضك.
رغم مرور كل هذه الأعوام، لازلت أذكر كل شىء، كل حدث، كل تجربة ولو صغيرة، كل عرض شاركت فيه وكل مسابقة، عقلى زاخر بالذكريات والتجارب الذى كان بعضها مؤلما بالطبع، أو طائشا نظراً لحداثة سنى آنذاك، لكننى تعلمت منها ما صنع منى الـ\”آلاء\” الحالية، التى ستصبح أما فى المستقبل، وتنقل خبراتها إلى أولادها، نعم.. برغم كل هذه العروض الراقصة التى شاركت فيها –والتى لا أرى أى خطأ بها- سأصبح أما فى المستقبا غصبا عنك!
(3)
رفع شاب على صفحته على موقع التواصل الاجتماعى \”فيسبوك\” فيديو لبعض الفتيات يرقصن على أغنية \”انت معلم\” فى عرض راقص فى حوش مدرسة ما، ضمن فاعلية أو احتفال معين، حيث يتضح هذا من خلال البالونات والزى الموحد والـ\”بامبونتس\” الصغيرة التى تمسكها كل منهن، والتى تشبه الكرات التى تمسك بها مشجعات الفرق الرياضية فى الأفلام الهوليوودية.
علق الشاب على الفيديو ساخراً من \”أمهات المستقبل\”، ناعتاً إياهن بأوصاف لا تليق –وإن لم تكن خارجة- ورغم أننى شاهدت الفيديو مرارا وتكراراً لأجد أنهن يقمن بروتين عادى جداً لا توجد به أى حركات خادشة أو لا تتناسب مع كون العرض عرضا مدرسيا، إلا أننى لم أندهش، فقد عرفت أن هذا الشاب أدمن صفحة \”ماتعبرهاش\” التى تنادى بوقف التحرش، وفى الوقت ذاته تلوم الضحية عليه، وترد الأمر إلى ملابسها، فلم أعر أمره انتباهاً، لأن هذا النوع من البشر يؤكد لى حكمة أجدادنا حين خرجوا علينا بمثل شعبى يقول \”علم فى المتبلم يصبح ناسى\”، فلا فائدة من النقاش فى البديهيات، ولا فائدة من إرجاء الأمور إلى أصلها معه، فإذا كان يؤمن أن المُتحَرَش بها مُلامة، فكيف له أن يقتنع أن فتيات حديثات السن يقمن بروتين راقص بين جدران مدرستهن، لسن بمثيرات لشهوة؟!
إنما ما لفت نظرى حقاً هو تعليقات بعض الأصدقاء الذين شاركوا هذا الفيديو، كلهم يستغربون من تدنى التربية فى مدارسنا، ويردون رقص الفتيات على مهرجان شعبى إلى اضمحلال الخلق فى مجتمعنا، وفساد الأجيال، مندهشين من قدرة مثل هؤلاء الفتيات على أن يصبحن أمهات فى المستقبل ويعلمن الأجيال القادمة، بالرغم من أن عمر هؤلاء المعلقين يتماثل مع عمرى! فجعلنى هذا أفكر، أنحن بصدد أزمة أجيال جديدة؟ هل سنكرر الخطأ الذى صنعه معنا آباؤنا وأجدادنا مع من هم أصغر منا، فننظر إليهم ضاربين كفاً على الآخر ضائحين \”هانعمل إيه؟ جيل بايظ\”.
إننى هنا لا اتناول واقع أن رقص الفتيات محط نقد فى مجتمعى ومثار للخلاف دائماً، بدءً من فيديو السيدة التى رقصت فى دريم بارك، مروراً بفيديو الفتاة التى رقصت فى حنة صديقتها، لأننى قد تناولت هذا من قبل فى مقال على نفس الموقع بعنوان \”حافية القدمين\”، وأنا قد تعبت من نقاش البديهيات، تعبت من أن أظل أكرر أن الرقص ليس عُهرا إذا مارسته امرأة، وأن الحرية الشحصية يجب أن توقفك عند حدك حين تقرر رفع فيديو لبنات يرقصن دون استئذانهن، وأن جموعا من الشباب يرقصون فى منتصف الشارع على مهرجانات وأغان شعبية ولا أحد يستطيع أن يعيب عليهم، فهذه أشياء مفروغ منها بالنسبة لى، لم تعد مركزا للنقاش معى، فقد آمنت أن الحل الوحيد مع هذا المجتمع، هو أن نأخذ الحقوق غلاباً.. أن ننتزعها، ألا نلتفت لكلامهم حين ينقدون ما يتعلق بحياتنا الشخصية وتصرفاتنا التى لا تضر أحدا، بل إننى أنظر بعين ثاقبة إلى أولئك الذين يتساءلون \”هل هؤلاء أمهات المستقبل؟\”، احذر معى؟ نعم، هن أمهات المستقبل شئت أم أبيت.
السؤال الأجدر أن تسأله، هل تصلح أنت لتكون أبا أو أما فى المستقبل؟ ماذا فعلت لكى تستحق أن تكون مسئولا عن طفل؟ لقد عبرت مراهقتك، دخنت السجائر، لربما احتسيت بعض الخمر، حاولت التقرب من الجنس الآخر بشتى الطرق، شاهدت المواقع الإباحية، دخنت الحشيش يوم الوقفة من كل عيد، جرحت قلب إحداهن وجُرِح قلبك، مررت بالكثير من التجارب، لكنك لازلت لا تعرف الصواب من الخطأ، لازلت تتخبط أحياناً، فأرجوك لا تتحدث عن أزمة أخلاق الأجيال.
إن ما فعلته هؤلاء الفتيات لم يُحدث أى أزمة أخلاقية من الأساس، وأنا أمامك مثال حى، رقصت على (واه يا غزالى) أمام المئات، لكنى أعلم أننى سأنجح في أن أكون أما جيدة فى المستقبل، على الأقل سأعلم أولادى ألا يحكموا على تصرفات الحريات الشخصية بقيمهم ومعاييرهم الذاتية التى حتماً تحتمل الصواب والخطأ، وهؤلاء البنات أيضاً سيصبحن أمهات المستقبل رغماً عنك، فلا تحملهن ما لا طاقة لهن به، ولا تجعهلن جزءا من منظومة عفنة أنت نفسك ترس فى آلتها الكبرى، لا تسطيع أن تنفك عنه، فرقصهن المدرسى البسيط ليس سبباً فى أن يتم التحرش بالبنات فى الشارع، ولا فى أن تنتشر جرائم الاغتصاب والقتل والتكفير، ففى حين تلوم فتيات صغيرات على عرض عادى، لم أسمعك تندد باغتصاب الطفلة \”زينة الجديدة\”، أو تتحدث عن مصائب الجنون الأخلاقى التى نعيشها.
\”لن نكف عن الرقص مهما اتهمتمونا بالعُهر، وسيظل الرقص جزءًا من طبيعتنا الأنثوية، سيظل ينحت في منحنيات أجسادنا كمياه هادرة في صخور شلال عتيق، وكما قال صلاح جاهين \”يا اللى نهيت البنت عن فعلها، قول للطبيعة كمان تبطل دلع!\”