آدم يس مكيوي يكتب: باسم يوسف.. وانتفاخ الجثة

المؤيدون هم كتل متعددة تتنفس بخار الديكتاتور، فتنتشي، ويسكرها، فتتمايل كدراويش في حضرته.. تتغاضى عن سوءاته وأخطائه بأريحية منقطعة النظير، وتنهش في أعدائه ومعارضيه متجردة من كل منطق.. الدافع هنا ليس الحب والوله، بل البحث عن الأمان.
المعادلة في العلاقة بين الطاغية ومؤيديه هي معادلة براجماتية من الدرجة الأولى. في فيلم ماد ماكس Mad Max يجلس القائد بجلد مترهل يشبه العجين الذائب.. جلد مبقع بدوائر البهاق، يداريها بطبقة من البودرة البيضاء.. على أعلى ارتفاع شاهق يمن على رعيته بالماء.. حاشية الطاغية توصل صوته للجماهير عبر بوق يضخم الصوت لإعطاء رهبة في مشهد شبيه بدخول هتلر الإستاد مع إظلام المكان وإنارة البقعة المتواجد فيها، لبث الرعب في الحضور، ثم يقول بصوت المضخم Sieg Heil  ويعلن الحرب على العالم، أو الإمام أحمد حاكم اليمن الذي كان يمنع النظارات ويمنع الدبلوماسيين من دخول بلده.. كل هؤلاء رغم شططهم ونزقهم كانوا يلقون تأييدا وكان لهم جمهور، لأنهم كانوا يمنحون الجمهور أمانا أو رشاوى.. الأمان مقابل التسليم.

الديكتاتور الحديث أو الكلاسيكي يتغذى على المؤيدين، هم من يعطونه قوة أكثر، وهم سلاحه في مواجهة أي معارضة.
يحفل التاريخ بجماهير صفقت وهللت وباركت اعتقالات وتنكيل بالمعارضين، فحين كان روبيسبيير أحد أبرز وجوه الثورة الفرنسية المسمى بالـ incorrigible أي الذي لا يخطيء.. يعدم معارضيه من بقايا الملكية أو من زملائه، كانت الجماهير تصفق له وتزأر من النشوة ويتقاذفوا الرؤوس المقطوعة تحت المقاصل، وحينما قتل روبيسبيير صفقت الجماهير، ولعبوا برأسه الكرة.. الجمهور حيا موسوليني وأعضاء حزبه الفاشيين، وانضم لمسيرته الشهيرة تجاه روما، ثم عاد وداس على وجهه وعلقه من قدميه كالذبيحة عندما انهزم.
من أمضى الأسلحة في مواجهة الطغاة الأقوياء منهم والضعفاء، هي السخرية.. ألم يهدد السادات الفنان عبد الغني قمر شقيق بهجت قمر بقطع لسانه عندما كان يهاجمه من ليبيا وبغداد، ثم جلس في أحد الجلسات الخاصة وهو في العراق وتناول صدام حسين بالسخرية، فعثر عليه مقطوع اللسان، وتوفي بعدها، ولم يعرف أحد من قطع لسانه بالضبط، وإن كان المرجح هم رجال صدام.. ألم يأمر الحاكم بأمر الله بقطع لسان كل من يسخر منه أو يتحدث باللغة القبطية علنا؟

نصل السخرية حاد وقد يؤثر في الحاكم.. يقلق مضجعه، ولو كان محاطا بالحرس المدججين والأتباع المدجنين وملايين المؤيدين.. السخرية تنزع الملابس عن الديكتاتور.. تعريه في استربتيز كلامي.. تسقط هيبته.. تشعل النار في شاربه، مثلما حرق أبو بكر عزت شارب النجعاوي في \”تلاتين يوم في السجن\”، ففقد النجعاوي هيبته وظل يتوعده طوال الفيلم بالتنكيل به.
باسم يوسف حرق شنب النجعاوي، بينما النجعاوي كان يرش الماء أمام الدكان ويطلق البخور ويستفتح ويقول: \”استعنا ع الشقا بالله\”.
باسم يوسف دق أول أزميل في صخرة الغطرسة، وتناول ما هو مقدس في العقلية المصرية.. هيبة صاحب البدلة العسكرية، والتي انتقص منها المصريون أنفسهم في ظرف غير  مشابه وهو ما بعد هزيمة 67 عندما كانوا يتداولون نكتة محطة المطار السري.. محطة المطار السري.
باسم في برنامجه وضع المجهر حول جهاز الكفته الهزلي لعلاج الإيدز، ووضع مؤسسة الحكم في حرج بالغ، ثم حول فوهته نحو المؤيدين ودروشتهم المبالغ فيها، داقاً ناقوس الخطر.. التأييد الأعمي يجلب الخراب.. يجعل رأس السلطة ينتفخ وجلده يترهل ويتمدد، فكأنه كتلة لحيمة ضخمة مثل كاركتر فيلم Taxiderma
ولكن لم ينتبه أحد.. الكل كان مشغولا بالحرب الإعلامية الطاحنة ما بين الغرب والشرق.. الكل كان يسمع تهويل الإعلام لما يحدث وتفخيمه في الديكتاتور.. لا يمكن إغفال أن من ينتمون للتيار الإسلامي عندما وجدوا سفينتهم مثقوبة ويتسرب من خلالها الماء بعد أن طحنهم الجيش في معركة غير متكافئة اختاروا أن يخوضوها، لاشوا يمينا ويسارا وأوقعوا بعض الضحايا وحرقوا كنائس انتقاما من المسيحيين، لأنهم أيدوا السيسي.. وقتها لم يكن هناك مساحة لأي صوت عاقل أو صوت مختلف عند طرفي الصراع.. إما أن تكون معي أو مع الآخرين.. تورط الكثير منا خوفا من تمدد التيار الإسلامي، في التأييد المطلق للمؤسسة العسكرية في تعاملها مع الداخل، وهو ما ندفع ثمنه اليوم، أو نتجرع سم هذا التأييد، لأن التأييد المطلق نفخ في النظام وجعله يتمدد ليخنق المجال تماما، مثل مسرحية \”اميديه\” لرائد مسرح العبث أونيسكو.

المسرحية تدور حول زوجين يعودان في يوم من الأيام من حفل موسيقى، ليجدا جثة ملقاة داخل الشقة.. يتملكهما نوع من الخوف من إبلاغ الشرطة أو رمى الجثة خارجها، فيتركانها في البيت.. وعلى مدار السنين تكبر الجثة وتشغل حيزا أكبر من فضاء الشقة، وينمو فوقها زوائد فطرية.. الزوجان وعائلتهما يتعايشون تماما معها، وأحيانا يتغذوا على نبات الفطر الطافح على سطح الجثة، والزوج رجل غليظ ومزعج وكلما زادت غلاظته، انتفخت الجثة أكثر.. قريبا سنستمريء الخراء، وكل واحد فينا \”يجيب معلقة ويغرف نصيبه من كتلة الخراء المتضخمة اللي بتكبر يوم عن يوم\”، تحقيقا للمثل الفلكلوري الجميل \”كييف الخرا يجيب له معلقة\”.
قال جون فيراه في أغنية La complainte de Pablo Nerauda  التي كتبها لوي أراجون \”شكوى بابلو نيرودا\” كيف لنا أن نسمع أغنية بابلو نيرودا في وسط ضجيج وقع أقدام الجنود الغليطة؟ واليوم كيف لنا أن نسمع صوت باسم يوسف وسط وقع أقدام الجنود الغليطة؟
الأقدام التي تعتقل وتلقى في غياهب السجون بلا محاكمات وأحيانا بمحاكمات هزلية؟
الأرض التي عبدت بعد 25 يناير كان مقدرا لها أن تطرح زرعا أخضر جديدا وسط الطين المتراكم، ولكن أحشاء النظام القديم التي تم بقرها في 25 يناير عادت للإلتئام وازدادت وحشية؟
لقد وصل اليوم الأمر بالسادة الباحثين عن الأمان أن يدافعوا عن الفساد وهم يرونه يوميا ملء العين.
ماذا بقى من هتلر اليوم؟ لقد بقى منه الآلاف من الكتب التي تم تدبيجها قدحا وذما فيه، وقانون في بلده التي أرادها فوق الجميع، يجرم التحية على طريقته؟
ماذا بقى من موسوليني غير وجهه الذي تشوه حينما داسته الأقدام؟
لقد بقى مشهدا جميلا من فيلم \”أماركورد إني أتذكر\” لفردريكو فيلليني، حينما أتي بمجسم من الفللين لوجه موسوليني الدائري المكتنز وهو يخرج بالونة وردية اللون كبالونات اللبان الممضوغ، ثم تفرقع في وجهه.
الديكتاتورية وما يتمخض عنها من قمع وكبت للحريات وإهدار حقوق الإنسان، يجب أن يكون مكانها المتاحف ويستحق أن توضع على منضدة السخرية، وأن يعمل فيها باسم مبضعه.
استكثر المؤيدون على باسم يوسف أن يكون له برنامج جيد، فاتهموه بأنه ممول، وأنه مسخ من جون ستيورات، وأنه ما عاد يضحك الناس، وتراكم جبل من الاتهامات حتى اوقف البرنامج.
لو كان البرنامج قد توقف عن إضحاك الناس أو حتى التأثير فيهم -ولو قيد أنملة- فمن أوقفه إذن؟
من جعل الرجل يحزم حقائبه ويتيه في منفى اختياري؟ أليست الجثة التي تمددت وخنقت المجال تماما؟
لقد فضلت الغالبية من الناس أن تراقص الضباط رقصة رومانسية مثل مشهد فيلم جودورسكي The Holy mountain  .. رقصة يتعانق فيها الشعب مع جلاده بحثاً عن الأمان.

قيل لمحمود سعد صراحة: توقف عن الحديث في السياسة وقدم برنامجا ترفيهيا مثل منى الشاذلي التي اعتزلت السياسة وآثرت السلامة.

كل من يغرد خارج السرب تتم ملاحقته.. باسم يوسف ليس بطلا من أبطال الحواديت، ولا مجالد روماني يجب علينا أن نلقيه في مواجهة الأسد، بينما نجلس في المقاصير نشاهد إذ ربما ينتصر هو.. الرجل فقط رمى حجرا من أحجار عديدة ألقيت في المياه الراكدة، وأقض مضجع العماليق الرابضة فوق الصدور، لكن في النهاية الأسد يظل أسدا قادرا على نهش معارضيه وابتلاعهم لو لزم الأمر.
في القرن التاسع عشر كان هناك رسام كاريكاتير إنجليزي يدعى \”رودلسون\”، كان يرسم كاريكاتير يسخر فيه من العديد من الساسة ورجال الدين، مما جلب له الملاحقة والتهديد، فقرر في لحظة أن يرسم رسوما شديدة الأيروتيكية، تسخر بشدة من القيم البرجوازية، وبرر ذلك بقول: \”اريد أن اصدم الطبقة المحافظة في أفكارها.. تلك الطبقة التي تخنق الإبداع وتؤسس للطغيان باستسلامها وتحفظها وتشجيعها للقمع\”.
ونحن هنا لا نطالب باسم يوسف بعمل برامج أيروتيكية لصدم الطبقة المحافظة والمتحفظة والمؤيدة، بل ننتظر منه أن يكتب لنا.. لا ليبرر، ولا ليجيب عن أسئلة، ولا ليدافع عن اتهامات، فباسم بعيوبه ومميزاته، سواء كان يضحكك حتى تسقط على الأرض، أو يجعلك تبتسم، أو حتى يثير عقلك ويجعلك تفكر، وتنظر للأمر من عدة زوايا، فهو في النهاية لا يستغفلك، ولا يقول لك سلم لي دقنك يا حسونة.. على رأي حسن سبانخ في فيلم \”الأفوكاتو\”.. الرجل لم يدع في يوم ما بطولة، بل كان يأمل مثل الكثيرين في رياح التغيير.. الرجل ساهم مثل غيره في تعبيد الطريق لمناخ صحي من الممارسة السياسية، لكن يبدو أننا جميعا قد تعجلنا، أو تخيلنا أننا قادرون على اختصار العديد من المراحل في خطوة واحدة، لكن عزاءنا أنه في يوم قريب، سيكون ما حدث هو مرجع لمن يأتي ومقارنة جلية لن يخطئها أي شخص فطن، لما بين طاقات كانت تنمو، وهراوات وذقون وأدت أي محاولات للتغيير.
المحاولات لثقب الجدار الأسمنتي الذي تصبه الأنظمة الشمولية لن تتوقف، والمجال اليوم أصبح مفتوحا والجدار سيتآكل قريبا، وسنفتح كوة جديدة كما فتحناها من قبل، ربما ليس الغد ولا بعد الغد، ولكن قريبا.. ولن تكون الديموقراطية مجرد عروس بلاستيكية في فاترينة العسكر كما رسم لنا عبد السميع عام 54.


بوست سكريبتوم \”حاشية\”: نرحب بباسم يوسف كاتبا في \”زائد 18\”.. نأتنس به ونرجو ألا يكون سببا في إغلاق ضلف الموقع، وربنا يستر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top